حتّى الآن، كلّما فكّرت في الأمر، لا أعرف ما هو السبب الذي دفع القارب للرسو في ذلك المرفأ. وإن كنت أدرك متى جاءت تلك اللحظة التي حرّضت المجداف على الدفع في هذا الاتّجاه. في لحظة محدّدة من عام ٢٠٠٥، حدث ذلك، جاء من حفّزني على السير في ذلك الطريق المضني، بعد سنوات من النجاح في تجنّبه، بوسائل أخرى، استطعت من خلالها، مراوغة هذا الطيف، كلّما لمحته يقترب، وإرجاء الخطوة الأولى. دائما ما كانت فكرة كتابة الرواية تلوح في البال، من وقت إلى آخر ظلّت حيل الهروب تتوارد، لجأت إلى الشعر، أصدرت أول مجموعة، واعتقدت أنّ الطريق بات ممهّداً، لكنّ الصحافة سرعان ما استهوتني، غرقت في فنونها المراوغة، وبقيت لسنوات طويلة، أسبح في جداول الصحافة اليومية والمجلات الاسبوعية والشهرية، ومنها انتقلت إلى البرامج الإذاعية والتليفزيونية، وخلال ذلك كتبت القصّة وانتظمت في كتابة المقال، لكني في النهاية وصلت إلى قناعة بأنّ كل تلك الأزقّة التي سرت فيها، أو تلك الروافد التي كان النهر يتفرّع إليها، لم تكن سوى محاولات مستميتة للهروب، وأنها في النهاية لم تستطع إرواء ذلك الظمأ العارم لثرثرة مبهجة. خلال تلك المحاولات، كانت القراءة عادة يومية، تستقطع ساعات محددة من نهايات اليوم، وكان ذلك يغدق عليّ متعة باذخة، كنت أتجرّع منها فأرتوي في سعادة. لعلّ تلك المتعة على وجه التحديد، هي التي جعلتني أكتفي بها، في مقابل أن أنأى بنفسي عن الدخول في مسارات تلك المشقّة، التي ظلت تغويني لفترة طويلة، حتى جاء اليوم الذي لم أستطع فيه اختلاق حجج جديدة.


كان ذلك عندما نظمت مجلة “العربي” الكويتية التي كنت أعمل بها لسنوات طويلة، ندوة عن رحلات المجلة شرقاً وغرباً، ودعَت لها عدداً من الضيوف من الأدباء والرحّالة وكبار المثقفين في المنطقة العربية. في ليلة الافتتاح، كنت أجلس مع أحد الضيوف؛ روائيّ عربيّ مرموق، سألني عن أهمّ ما قابلني خلال الاستطلاعات التي أوفدتني المجلة لاجرائها، تلك المواقف والأحداث المثيرة للدهشة وغير المنشورة، حكيت له عمّا شاهدته في الهند، كنت قد سافرت إليها لإجراء استطلاع مصوّر.


قبل السفر، وطوال شهر كامل، قرأت كلّ ما وقع في يدي من كتب عن تلك البلاد، قمت بتلخيص المعلومات، ورتّبتها وفقا للولايات التي تقرّر زيارتها، وحين كنت وزميلي المصوّر نجلس على مقعدين متجاورين في الطائرة المتجهة إلى مطار أنديرا غاندي في العاصمة دلهي، كنّا حجزنا الرحلات الداخلية والفنادق وحتى السيارات المؤجّرة التي ستصاحبنا طيلة الرحلة، وحدّدنا الأوقات التي سنقابل فيها مسؤولين ومثقفين وفنانين وشخصيات أخرى من تلك البلاد أو التي كانت تقيم فيها. كلّ شيء كان مرتّباً، غير أنه في بلد مثل الهند، لا يخلو الأمر مهما كانت دقّة الترتيب، من مفاجآت مدهشة. وذلك ما يمكن أن يؤدّي إلى تحويل مسار الرحلة، حدث هذا في عدّة رحلات سابقة دارت بنا بين الشرق والغرب. أخبرت الروائيّ ليلتها بحكاية ذلك الشاب الفلسطيني الذي أصبح إلها ولديه الآلاف ممّن يؤمنون به، ويقيمون بين يديه طقوس عبادتهم، في مواعيد محدّدة عند بداية اليوم وقبل نهايته. حدث ذلك عندما أخبرني أحد مراسلي وكالة أنباء عربية في دلهي بحكاية هذا الشاب، معرباً عن استعداده لإيصالي إلى حيث يتواجد في إحدى ولايات الجنوب.


حكيت بتفاصيل مرتبة، وقائع القصة، من بداية وصول هذا الفتى إلى الهند لدراسة الدكتوراة، حتى اللحظة التي قادته للوقوع في قبضة من قاموا باعتقاله أولاً، قبل أن يقرّر زعيمهم أنّ مواصفات الإله الذي تتوارث القبيلة ترديدها، تنطبق على ملامحه. عند هذه النقطة، كانت ملامح الدهشة تبدو بوضوح على وجه الصديق الروائيّ، عقّب بكلمات مشجعة، وانتهى هذا اليوم. في الصباح، قبل موعد بداية الجلسة الحوارية الأولى للندوة، لمحته وهو يتّجه من بعيد نحوي، وحين اقترب، قال لي إنّ ما كنت تحكيه بالأمس هو نصّ متكامل، إن لم تكتبه أنت سوف أقوم بكتابته. وجدتني أردّ عليه دون انتظار: بل سأكتبه.


تلك اللحظة مثّلت تحدّياً كبيراً لي، على وجه التحديد، هي التي أمسكت بالمجداف فجأة، ودفعته إلى توجيه المركب في الاتجاه الذي ظلّ يسير فيه بعد ذلك. في نفس الأسبوع، كنت قد تقدّمت بطلب للحصول على الإجازة السنوية، قرّرت أن أقضيها في غرفة المكتب، افترضت أنّي أغادر إلى العمل كلّ يوم، أرتدي الملابس التي أذهب بها، وأنتظم في المكتب من السابعة حتى الواحدة والنصف، وأحصل لنفسي على إجازة كلّ يوم جمعة. خلال فترة الإجازة، كنت قد كتبت الرواية بالكامل، استهواني الأمر، فاقتطعت وقتاً إضافياً لمراجعتها، ثم عدت مرّات عدّة لقراءتها وإعادة الصياغة، كانت المرة الأولى التي أكتب فيها الروايات، لكنها أنهكتني، ودفعتني خصوصا خلال المراجعة، إلى التفكير في تمزيقها، وفي كلّ مرة كنت أتراجع، كان الجهد الذي بذلته، والذي كنت أشعر معه بأنه أنهك قواي، هو الذي يجعلني أعدل عن هذه الفكرة في آخر لحظة. لكن التعب لم يكن في كتابتها فقط، كانت المعاناة أيضا في نشرها، أرسلتها إلى عدد من دور النشر، وبدأت رحلة من المساومات، بعض تلك الدور لم تكن قرأتها، فخلال أسبوع كان الرد يتضمّن عرضاً بالمبلغ الذي ينبغي عليّ أن أدفعه، وكأنّه لم يكن يكفيني هذا الجهد الذي عانيت منه عند كتابتها. دار نشر وحيدة كانت هي التي تعاملت معي بشكل راق، طبعتها وقامت بتوزيعها دون أن تطلب مني أي مساهمة، وبعد نشرها، منحت لي نسبة كبيرة من النسخ، وأوصلتها لي في مكان إقامتي. وحين سافرت إلى كندا، وزرت المكتبة الكبرى في مونتريال، وجدت رواية “خيار الصفر” هناك، مستقرة على أحد الأرفف في قسم الروايات الصادرة باللغة العربية.


الآن، أسأل نفسي، إذا كانت كتابة الرواية تأتي بكلّ ذلك العناء، فلماذا استهواني الأمر ودفعني لكتابة خمس روايات أخرى؟ والإجابة البسيطة التي أجدها أمامي الآن، هي تلك المتعة التي أحسّها، رغم التعب، ذلك الألق الجميل الذي يجتاح كياني حين أضع النقطة، في نهاية السطر الأخير، تلك التنهيدة التي تخرج من الصدر، والتي تحمل معها للقلب راحة عميقة.

====

• روائي وصحفي مصري مقيم في الكويت. صدرت روايته الأولى "خيار الصفر "- عن الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت ٢٠٠٦، وصدرت له بعدها عدة أعمال روائيّة: "قبعة الوطن" بيروت ٢٠٠٨، "الجحيم يصحو مبكراً" - المنامة ٢٠١٢، "الاحتياطي" - الهيئة للكتاب في مصر – ٢٠١٤، "شغف خافت" - القاهرة ٢٠١٦.

الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم