عام 1987 تخرّجت في كلية الهندسة ولديّ مجموعة قصصية أولى جاهزة للطبع بعد أن أتلفت مجموعة البواكير. رفضت وزارة الإعلام نشر إجازة المجموعة في وقت فرض الرقيب سطوته على الصحف والنشر الأدبيّ بعد تعطيل الحياة البرلمانية في الكويت وإلغاء مجلس الأمة وإيجاد ما يسمّى بالمجلس الوطني. وتمّت إجازة المجموعة بعد تدخل أحد الزملاء لدى وكيل الوزارة عام 1990. ولكن الفرحة لم تكتمل. احتلّ الجيش العراقي وحدث ما حدث. في أيام الغزو كنت أجلس مع صديق من العائلة يحدّثني عن قصة سمعها من أحد رموز كردستان في يوم ما تتحدّث عن لقاء بين رئيس العراق صدام حسين؛ الذي كان حينها نائبا للرئيس، وزعماء الحزبين في كردستان بعد قتال طويل ومرير بينهم. يقول صدام حسين للأكراد "أنتم شعبي وأنا أحبكم". ويرد الزعيم الكردي "علاقتنا معكم تشبه علاقة الثلج بوردة الثلج. في الثلج نمو برعم صغير لوردة ويطلب الثلج من الوردة أن يتزوّجها ولكنها تطلب منه أن تنضج وتصبح وردة. ولكن الوردة لا تكتمل إلا حين يستعد الثلج للرحيل وتطلب منه الزواج ويعتذر بأنه قد هرم وعليه أن يرحل. يذوب الثلج ويجرفها معه. يتكرّر هذا المشهد كلّ عام ولكنهما لا يلتقيان أبدا". حين تمّ تحرير الكويت كنا خسرنا الكثير من الأصدقاء الشهداء والأسرى وبدأت الحكومة الكويتية أيضاً تضغط علينا وتضيق سبل العيش على أغلبنا ممن لانحمل الجنسية الكويتية. وكان من الصعب أن أفكر في كتابة عمل وأنا داخل هذه المعمعة. علي التفكير خارجها. وعدت لحكاية الوردة والثلج وقررت أن أكتب رواية عن اضطهاد الكرد ومجزرة حلبجة قبل أن أكتب عن احتلال الكويت ومعاناتنا. في تلك الأيام انتشرت كتابات متعدّدة لم تفرق بين الشعب والسلطة. مجاميع قصصية لكتاب ذوي خبرة وكتاب شباب يصدرون مجاميعهم الأولى، دواوين شعر عربية وشعبية لشعراء كانوا أنصار الحرب العراقية/ الإيرانية ويحاولون جاهدين نظم قصائد مقنعة لمهاجمة العراق، مسرحيات مشوّهة وانفعالية ساخرة من جار الشمال. وكان علي أن أكتب بوعي وسط هذا الضجيج. أن لا يضيع فن الكتابة تحت وطأة هذا الغضب. الحل الأمثل هو أن أبتعد عن الحدث وأن اتجه لقصة بعيدة عن الغزو وذكرياته وردود الفعل والانفعال المباشر. أخرجت القصاصة التي كتبت عليها حكاية الزعيم الكردي والرئيس العراقي. كيف بالإمكان خلق رواية من قصاصة ورق لا تضم أكثر من وردة وثلج وزعيمين. عاد إلى ذهني زيارة إلى لندن في أواخر الثمانينيّات وفي أحد الشوارع كان شباب عراقيون أكراد يرفعون صور ضحايا الهجوم الكيماوي على حلبجة المدينة الكردية التي فقدت في يوم واحد أكثر من خمسة آلاف ضحية مدنية. في الوقت الذي كان الجميع قد صمت عن المجزرة التي صنّفت "إبادة جماعية". كانت التجربة الروائية مغرية بدأت أكثر شبها برحلة أقود فيها حافلة وأجمع ركابها ليشاركوا في نسجها والمساهمة في أحداثها. لا أنكر أنني أفتقد الخبرة في العمل الأول وكنت أراهن على لغتي في إنقاذ العمل. كانت المعضلة الأساسية أنني لا أعرف شيئاً عن العراق. لم أزر العراق في حياتي ولا أعرف شيئاً عن الشمال العراقي ولكن التجربة كانت أكثر إغراء. ليكن كل شيء خيالا ليس إلا. هذه روايتي الأولى وتمنحني فرصة أن أجرّب خيالي فيها وتغفر لي زلتي كونها عملي الأول. كانت الوسيلة الوحيدة لخلق الأجواء الروائية بجمع أكبر عدد من المعلومات عن الشمال العراقي ولمت المكتبة توفر لي هذا الكم الكبير من المعلومات عن سيرة الأكراد وحياتهم. أسعفتني كتابات سليم بركات الروائي الكردي السوري عن أكراد القامشلي وتوقعت أن الحياة الاجتماعية هناك في شمال العراق لا تختلف كثيرا عن أكراد سوريا. اعتمدت كثيرا على الخرائط لأعرف المسافات بين المدن في محاولة لضبط الزمن. لكن تطور الشخصيات واستقلالها لتؤدي أدوارها المرسومة لها كانت كافية للابتعاد عن تفاصيل تاريخية أو سياسية. كان الخيال هو الطريق الأفضل لكتابة روائية موازية للواقع وليس نقلا مباشرا له. وكانت عاشقة الثلج التي بدأتها بحكاية صغيرة وأنهيتها بثلاثمئة صفحة وشعور بالنجاح الداخلي. بدأتها في فبراير 1991 وأنهيتها في أغسطس 1992. أردتها ألا تكون انفعالاً مباشراً لما أصابنا فتفشل كعمل أدبي خصوصا وأنا أتابع فشل الزملاء حينها في كتاباتهم المباشرة عن الغزو. كنت أريد أن أكتب الجزء الثاني منها ولكنني قررت توزيعه على ثلاثية الجهراء التي أنهيت جزأين منها وأكتب الثالث حاليا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • روائيّ كويتي مقيم في كندا الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم