لا زلت أذكر الليلة الفاصلة بين عام 1999م وعام 2000م التي أنهيت فيها قراءة رواية (شقة الحرّيّة) للأديب السعوديّ الكبير: غازي القصيبي، أعدت الرواية لحقيبة صغيرة، وقلت في نفسي: "كم أغبط هؤلاء على شقّ طريق الخيال الواسع الغنيّ بالتفاصيل والمفاجآت والأسرار"، لم يطرأ علي بتاتاً وأنا الخارج من دولة الشعر بأنّ القَدَر سيُهدي لي الفرصة التي تجعلني أنضمّ إلى ركب روائيّين طالما سهرت الليالي أقرأ في بديع بيانهم. لعلّ من أكثر الأعمال التي كانت تغريني للكتابة القصصية بشكل عامّ هي أجواء السِّير الشعبية التي عرفناها في الصغر، كسيرة عنترة، وحمزة البهلوان، وسيف بن ذي يزن، وأخريات، هذا خلاف التي كانت تُعرض على الشاشة أو التي كانت تُقرأ على أسماعنا في المدارس حين كنّا في الصفوف الأوليّة، يقابلها تلك التي كنّا نسمعها في مجالس الأهل ونحن صغار. السّير بشكل عام تعزّز الشغف القصصيّ والتقصّي النفسيّ للشخوص، وتبثّ الفضول لمعرفة أدقّ ما كان يدور في حياة أبطالها، وإلى اليوم ما برحت السّير تغني الوجدان العربي وتثريه، وهي خير برهان على أنّ القصص شغف قديم عند العرب. بعدها تجدّدت قراءتي للسرد فكنت إلى جانب السرد النثري أسافر في نصوص السرد الشعريّ المتمثّل في الملاحم كجلجامش وملحمة التّبع اليماني وغيرها، ما جعلني أزداد فخراً وزهواً بتراثنا الأدبي العربي الأصيل، وفي عام 2008 وبعد خمسة أعمال إبداعيّة، واحد في الشعر، وآخر في القصة، وثلاثة في المنتخبات الأدبية، كتبت روايتي الأولى (عين حمئة)، وذلك بعد أن تفجّرت أحداثها في مخيلتي ممسكة بخيوط من الواقع وأخرى من الخيال، موقناً أنّني تمهّلت أكثر ممّا يكفي، كنت وقتها أختزن غضباً كبيراً ضد بعض الممارسات غير المريحة لإنسان العصر، رغم أنها تتشابه مع مثيلاتها في أماكن كثيرة، وقد لا تكون بغريبة في مجتمعات عدة. بدأت كتابة روايتي الأولى بعد أن أغلقت مسودة مجموعتي القصصية الوحيدة (نجم نابض في التراب) وبقيت في تردّد من نشرها لسبب قد لا يكون مقنعاً لدى البعض، والتي ظلّت حبيسة أدراجي حتى بعد صدور روايتي الأولى، فأنا حتى اللحظة لا أرى للقصة القصيرة إغراء ونشوة وسعة كالشعر والرواية أو السّيرة. وفي منتصف عام 2009م اعتكفت على إكمال ما كان ناقصاً في فصولها وأحداثها، ثم أعدتها وأنا أُصارع شيئاً من التردّد، وفي نهاية عام 2009م فردت صفحات المسودّة على طاولتي لأعيد قراءة ما كتبته، وبعد تصحيح وتمحيص وتعديل وشطب وإضافة، وجدت أنها تحتاج فقط لوقت من الانتظار، كنت موقناً أن التجربة الأولى مُحيّرة أكثر من التجارب التي ستليها، لأن خروج الكاتب من التجربة الأولى سيمحي غشاوة التجربة العامّة ككل، وقتها ساورني شكّ أنها (بيضة الديك) لشعوري وقتها أنني كتبتها عن غضب اجتماعي، ونقد حالة إدارية سلبية تسود واقعي المدني، وليست وليدة تراكم سردي أو أدبيّ شموليّ. وخلال عام 2010م أخذت قراري بإصدارها وانتظار ما سيكون بعدها، إما أن أكمل مشواري أو أكتفي بها وأنضمّ لأصحاب "الواحدة - اليتيمة" في الرواية العربية، وتبقى تجربتي الروائية الوحيدة محلّ شكّ وتساؤل عن جدواها. لا شكّ أنّ كلّ عمل أول نادراً ما يسلم من عيوب البدايات، وهذا في نظري طبيعي، لكن حين يُعزّز الكاتب حضوره بأعمال أخرى، مبيّنة تطوّره السرديّ، ونموّ أفكاره الإبداعية، يكون وقتها قد خرج من دائرة البدايات شريطة أن يكون قد قَرَن الكم بالجودة، ولو متفاوتاً، وهذا ما يحقّق الكثير من المتعة الذاتية لصاحب التجربة. وفي نهاية عام 2010م أنهيت كافة إجراءاتي مع الناشر، وصدرت مطلع عام 2011م تحت عنوان (عين حمئة) الذي انتخبته من بين عدّة عناوين كانت ضمن الخيارات التي وضعتها بعد انتهائي من العمل، فقوبلت عقب الصدور بتسع مقالات توزعت بين أدباء من وطني أمثال الروائي السعودي: محمد المزيني، والروائية: فاطمة البلوي، وأدباء عرب أمثال الأديب السوري: أديب حسن محمد، والأديب الجزائري: عبدالقادر كعبان، تحقّق لي بعدها الحضور الممتع على الخارطة الأدبية، كما أسعدني أن العمل راق لمبدعين كبار من وطني أمثال من ذكرت وأمثال الأديب السعودي: عبدالحفيظ الشمري، الذي كتب عنها في جريدة الجزيرة السعودية قراءة من ضمنها: "عَكَسَ الواقع المتردي لمنظومة أعمال المدن وقرارات الوظيفة وارتجالات العلاج، والحلول المؤقتة وغياب الهدى وضياع الأمل وما إلى ذلك من صور هي في الأساس كما يقول الكاتب ضريبة ندفعها نحن للمدن التي لم يكتمل نموها بعد.. ". تأكد لي بعد مقالات عدّة لمبدعين عرب، أنه لن يفهم المبدع إلا قرينه المبدع، تماماً كما يفهم الشعراء بعضهم، فليس هناك ما هو أروع من مرافقة المسكونين بالفن، ومصاحبة الغائرين في جروح الكتابة، ونغم الصورة، ولهفة الخيال. تلا ذلك عدد من الحوارات التلفزيونيّة والإذاعيّة والصحفية التي أجدها ضرورية للتعريف بأي صاحب عملٍ أول في أي جنس أدبي كان، لأن ما سيلي ذلك من أعمال ستكون ترسيخاً وتأكيداً على أن الكاتب حقيقي وليس بطارئ، وممّا أبهجني أيضاً هو أنها اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة حائل للرواية 2012م. برغم أنني لا أعتبر الجوائز معياراً لجودة العمل بل دافعاً مهماً لمعنويات المبدعين. بعد ذلك تلاشت غشاوة التجربة كما ظننت سلفاً، لتقفز إلى ذهني أفكار أكثر أهمية وأكبر إغراء من قضايا المجتمع المدني التي تناولها جلّ المبدعين بالشعر والنثر، ورسمت بعدها خطوط سير أعمالي وتواصلي مع أقراني من أدباء العربية في وطننا الكبير. والآن وأنا أستعد لإصدار روايتي الرابعة، والمنتمية لأدب الحرب، ما زلت أذكر الوضع النفسي أثناء كتابة الرواية الأولى، وأبتسم لظروفها التي دفعتني لخوضها، وأشكر الغضب الذي أشعل في قلبي جذوة الكتابة، ومهّد لي طريق السرد الروائي المغري، وأغدق على روحي فكرة الخوض في قضايا كبيرة كأدب السجون المتمثل في روايتي الثالثة (طيور العتمة) والأدب السياسي المتمثل في روايتي الثانية (دم يترقرق بين العمائم واللحى). عشرون عاماً من فضل الله هو عمر تجربتي الأدبية عامّة، جعلت التنوّع انطلاقتي، لأن جمال الحياة يبنيه التنوّع والتعدّد، الذي ينمّي شخصية المبدع ويجعلها شموليّة تُدرك سعة الكون لتتأمّل حجم التغيرات، عشرون عاماً أمضيتها في التعلّم الذّاتي وتلمّس كلّ جديد في الأدب، مُعطياً روحي السفر في الحقول الأدبية متى احتاجت ذلك، فلا أُقبل على كتابة قضية أو موضوع إلا بعد أن يُشعرني بضرورة تناوله، كما أُؤكد بأن الأدب ليس محصوراً في الرواية فقط بل هو منظومة تشمل: الشعر، والمسرحية، والقصة، والسيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • أديب سعودي، نشر حتّى الآن 14 عملاً أديباً، ثلاث روايات، هي: "عين حمئة"، "دم يترقرق بين العمائم واللحى"، "طيور العتمة"، ومسرحيّة "وليمة لذئاب شرهة"، وأربع مجموعات توزّعت بين القصة والشعر والمقالة، وثلاثة أعمال للطفل، وثلاثة أعمال في المنتخبات الأدبية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم