مهام الروائي
لا أعتقد أن أحداً من المشتغلين بالكتابة في التاريخ قد كُلّف بحمل المهمّات المتنوّعة، في شؤون الحياة كافّة، بقدر ما حمل الروائي، لا الفيلسوف ولا المفكّر ولا العالم في أي مجال من مجالات العِلم، ولا الكاتب السياسي. فعلى الروائي أن يفهم التاريخ، وأن يبتكر أعمالاً روائية تقول للناس الأسرار والخفايا التي لم يقلها، أو تلك التي عجز عن قولها، أو طمسها عامداً.
وعلى الروائي أن يفهم الواقع، وأن يكتشف جوهره الحقيقي، وأن يتولّى توضيح أحوال الناس في زمن الفقر، أو الحروب، أو الاستبداد. وعلى الروائي أن يكون صوت المحرومين، ونشيد المقهورين، والمتحدّث باسم كلّ مَن لا يستطيع، أو لا يعرف، التعبير عن مشاعره وانفعالاته. على الروائي أن يُحسن التعبير عن الحُب وأن يكون صوت النساء.
وتزداد المَهام جسامة ومسؤولية في البلاد التي تشتدّ فيها النزاعات الأهلية وغير الأهلية، وهنا يُرغَم الروائي تقريباً، سياسياً أولاً، ثم فكرياً وأخلاقياً، أن يحدّد موقفه من تلك الأطراف المشتركة في هذه النزاعات. ويبدو مأزق الروائي العربي أكثر حرجاً، لأن الوضع العربي يضع كلّ خلاف في خانة الحرب؛ وكلٌّ من الجهات المتحاربة ـ وليس شرطاً أن تكون الحرب بالقنابل والرصاص ـ تطلب منه أن يكون واضحاً في موقفه من الآخر الذي أضحى عدوّاً، وأن يعلن موقفه من خلال الرواية، أو من خلال أي وسيلة أخرى، إلى جانب "الحقيقة". وكل طرف من أطراف النزاعات والحروب يدّعي أنه يملك تلك الحقيقة، وحده دون الآخر، وكل جماعة تريد أن تضع روايتها في رأس أولويات الرواية.
تزداد مَهام الروائي جسامةً في البلاد التي تشتدّ فيها النزاعات
لا يُسمَح للرواية بأن تقول كلمتها هي، أو موقفها المستقل عن إرادة الجماعات، أو عن رواية الجماعات. ولا يُسمح لها بأن تكون طرفاً ثالثاً، فالمطلوب هو انحيازها، والمطلوب هو أن تكون إلى جانبنا.
نظرياً، لا يمكن للرواية إلّا أن تنحاز في موقفها، ولا شك أن الروائي يعرف جيداً أين هي تلك المبادئ والقيَم التي ينبغي أن يكون إلى جانبها، ولكن روح الوصاية التي باتت تعلنها جميع الأطراف المتنازعة، تدّعي أنها هي التي تعبّر عنها، لا الروائي، ولا الرواية. وإذا أردتَ أن تكون صادقاً، فليس أمامك غير هذه المنظومة الفكرية التي يقرّرها هذا الفريق.
فماذا يفعل الروائي؟ تقول النظرية إنه لم يحدث في تاريخ الرواية أن وُجد كاتبٌ واحد تخلّى عن مسؤولية الروائي، ودون أن يعلن الروائيون موقفهم الفكري أو السياسي تحمّلوا تلك المهام الجسيمة، لا لأنهم ملتزمون بها أخلاقياً وإنسانياً، بصرف النظر عن جهات المتحاربين والمتنازعين، بل لأنهم يقفون بالضرورة أيضاً إلى جانب الإنسان.
أي إنسان؟ إنه ذلك الذي يختار قيَم الحرّية والعدالة والرحمة، وينبذ العنف والكراهية. هذه هي النظرية، بينما يشهد الواقع أن ثمة مَن يريد من بين مَن يدّعون أنهم "روائيون" أن يُسَخَّر هذا الفن الإنساني العظيم لأغراض التحيُّز التي تخلو عادةً من أعراض الحرّية.
قال تيري ايغلتون إن بالوسع أن نقول لجهتين متصارعتين أنهما على خطأ، ولكن ليس بوسعنا أن نقول لكلا الجهتين أنهما على حقّ.
المصدر: العربي الجديد
0 تعليقات