"قد صارت الرواية فعلا ملتقى علامات عدة: يتجاور فيها الخطاب الصحفي واليوميات والتاريخ والعجائب والسياسة والأحلام والتداعيات،،، (تجربة صنع الله إبراهيم وإبراهيم نصر الله ومؤنس الرزاز،،،) وتلتقي فيها أحيانا لغة الخبر بالشعر إلى جانب اللغات الخاصة والتصوف والأرقام وحساب الجمل( إميل حبيبي، الغيطاني، رجاء عالم،،،). كل هذا التعدد يشي بامتلاء الروائي بما يزخر به العالم من حوله والذي يحاول الإمساك به وهو يمتلئ بكل هذه الأشياء في تناقضها وتضامها واشتغالها العام. وحين نربط كل ذلك بالواقع العربي في تعقد بنياته وتراكبها نعاين بجلاء أن الروائي صار له دور آخر ووظيفة مغايرة. إنه يخلخل العالم ليحاول من خلال ذلك البحث عما يثوي وراء ظواهره."  

سعيد يقطين من كتابه قضايا الرواية العربية الجديدة - الوجود والحدود 

هل يحاول الفلسطيني باسم خندقجي  خلخلة العالم بواسطة قلمه من وراء القضبان؟ هل التقاء كل ما ذكر الدكتور يقطين في اصدارات الكاتب الأسير يؤهله للفوز في جائزة البوكر العالمية بنسختها العربية، بعدما وصلت روايته الأخيرة "قناع بلون السماء” للقائمة القصيرة؟ 

كتب باسم الشعر أولًا، فأصدر ديوانين “طقوس المرة الأولى" و "أنفاس قصيدة ليلية"، قدمهما الشاعر اللبناني، الإعلامي الكبير زاهي وهبي مشيرًا لأهمية الكلمة  ( أن للكلمة في حالة باسم ورفاقه مفعول الرصاصة التي تصيب مقتلًا من الاحتلال الذي يخشى الكلمات تمامًا مثل خشيته الرصاص) 

انتقل خندقجي إلى الرواية، فألف روايته الأولى "مسك الكفاية" المتأرجحة مابين واقع التاريخ وخيال الكاتب، حاكيًا عن الخيزران زوجة الخليفة المهدي ووالدة هارون الرشيد، تلاها “نرجس العزلة” الصادرة عن المكتبة الشعبية في نابلس ملامسة سيرته الذاتية، وجسّد فلسطين الجريحة عبر شخصية سنية في “أنفاس امرأة مخذولة” الصادرة عن الأهلية، بينماعاد للتاريخ في “خسوف بدر الدين" و "قناع بلون السماء” الصادرتان عن دار الآداب اللبنانية. 

يتضح لمتتبع كتابات الأسير باسم أثر القراءة على نتاجه الأدبي، فلا يصنف قلمه ضمن أدب السجون، إذ نأى بمشروعه عن حدود المعتقل، فاكتنفت رواياته بمخزون ثقافي عكس إلمامه بخيوط حكاياته، وبدا ذلك في وصفه لأزقة القاهرة وجوامعها، استدلاله بشعر ذو النون المصري، الحلاج وأحمد البدوي، حتى ابن خلدون، فراس السواح وفرانز فانون الفيلسوف الجزائري الفرنسي ورد ذكرهم لإتمام مراد الحدث. 

كما يظهر جليًا توقير الكاتب للمرأة ونصرته لدورها ووجودها، فمّجد الحضرمية الجارية تكريسًا للحرية، وجعل من سما الفلسطينية درب الخلاص والعودة.

كذلك إجلاله لقيمة الصداقة، فمراد السجين صديق نور في روايته الأخيرة، أيضًا طورة ومصطفى صديقا بدر الدين مثلوا جميعًا الصوت الداخلي، الوجه الآخر المتمم للحقيقة. 

أمسى خندقجي في كل ما كتب مكترثًا بمغزى الهوية وصراعها، وتجلى ذلك مليًا في روايته المرشحة للفوز، فنور الباحث في التاريخ انتحل هوية أور علّه يتمكن من كشف أصل قصة مريم المجدلية، مستعينًا بملامحه البيضاء الشقراء، وكأن الملامح تكفي لتكون منهم! 

يرى باسم أنه (وضعت الكتب لفهم الحياة وإدراك مصائرنا فيها)، رؤى تكمن فيها عبقريته،  فقد اتكأ على ما تولد من مطالعاته، ليسرد معلنًا تحرر فكره خارج الأسوار رغم جسده المسجون منذ سنوات طوال ( وأما السجن الأكبر فأنت من تحبس نفسك به ..أنت من تصنعه ) والحق أن قناع الكاتب ازرق اللون يحيل القارئ لتأكيد كيث وايتلام في كتابيه "اختلاق اسرائيل القديمة" و “إيقاعات الزمن” على وجوب اعادة سرد تاريخ فلسطين الماضي الأصلي في سبيل تحدي السرد المهيمن ( إن ماضي فلسطين جاسم في حاضرها ومستقبلها) حيث يدلف خندقجي إلى دهاليز التاريخ كما وصف لمواجهة الاغتصاب التاريخي الذي تتعرض له السردية الفلسطينية منذ النكبة على الأقل. 

"قناع بلون السماء" تروي الواقع (ليس ثمة معنى لاسم المخيم الفلسطيني إلا عندما تٌرتكب فيه المجزرة، ليصبح اسمًا من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانية) ، تتساءل عن متن الحقيقة (لماذا ينتزع كاتب اجنبي المجدلية من سياقها التاريخيّ الجغرافيّ  الفلسطيني ليلقي بها في مهاوي الغرب؟) تفتقد الوطن، مابين القدس ورام الله ( وثمة القدس وثمة رام الله، وهو يعتنق القدس متحررًا من أعباء رام الله)كما تكرس الذاكرة الفلسطينية، ذاكرة الأرض بقراها وأشجارها، وذاكرة البشر على اختلاف هوياتهم.

إن قلم الكاتب الأسير متفرد دون شك، غير عادي .. نعم، لأنه بهذه الجودة من حيث كتب، كيفما فعل! فمع تماسك البناء السردي، جودة اللغة بيّنة طيعة، فصيحة وبسيطة، تجلى عبرها كمٌ معرفي أغنى الحكاية، و نقل القارئ للبحث والاستفاضة، وإن رأى البعض هذه الجزئية مجالًا مقاليًا خطابيًا أبعد الرواية عن مسارها. 

*نحن ما سنكون..

لن ندّعي الزمان ولا ما يحزنون

نُقَبِّلُ الحرف نضعُهُ على رؤوسنا

النون

وطن..

فلسطين..

كونٌ مُعَلّقٌ على الدم..

ديمونة الدرب.. حصتنا منه

ذاكرةُ التأرجحِ فينا

أَمدُنا المُمتد من الآن إلى الآن..

نحن ما سنكون..

لا ماضٍ يُؤرِقُ البالَ في دعوتنا

إلى بناء الذاكرة متحفاً إلاّ فيما بعد

حين ينالُ الوردُ الخلدَ ويمسي جميل

نحن ما سنكون 

في آفاق آلهات الكون 

وتقاطع العوالم ولقاءات المصائر 

التي قد تكون لنا أو لا تكون .. 

نحن ما سنكون .. فاتحة النون 

وأصل النون ودين النون * أنفاس قصيدة ليلية 

هل يكترث باسم لارتداء قناع الفوز ؟ أم هو راض الآن مغمور بالرضا والسعادة رغم التضييق لمجرد أن روايته قٌرأت ونالت الاستحسان من القراء العرب؟ في ابداع باسم وغيره ممن يتمسكون بالأمل، مناداة على الحرية، تخيلًا لدفء يوم لقاء الأحبة. 

"قناع بلون السماء" هي الجزء الأول من ثلاثية "المرايا"، سيتبعها قريبًا “سادن المحرقة” ، فالجزء الثالث بعنوان “شياطين مريم الجليلية".