النقد والمفهوم:

إن ما بين النقد واتجاهاته وتياراته والمصطلح النقدي والنص الروائي وتشكلاته، تقع مساحة فضاء يتخلَّلها حزمة من التعريفات والنظريات الى حدِّ التناقض؛ وإن غدت من التقاليد المنهجية غير الراسخة بطبيعة الحال لما تلزم به النصوص المعالجة نقدياً من حركة دائمة تصعَّد بها في تطور لأدوات وأشكال الكتابة النصية سردية كانت أم إبداعية. وهذا الابداع أو الابتداع في النص الروائي الذي تنتجه المخيلة في سياق الكتابة الروائية تتحدَّد قيمته الفنية من خلال الإجراء النقدي.

وكلمة نقد من جذر "نقد" بما يفهم من تحليله ومركباته المعجمية (اللغوية) ما يحدَّد حركته في فضاء النصوص أو ما يواجه ويحاكم ما تفضي إليه اللغة والفكر والكلام. ولا تحدد كأداة قصراً على هذا التعريف المحدود، بل استقرت تعريفاته ودلالته مما يغني عن الحاجة إلى إعادة تعريفه وتتبع استدلالاته إلا لأغراض أخرى يحدِّدها سياق التعريف. وهذا يدخل في الشعر والقصة والسرد والتاريخ ومروياته، وعموم النثر، وأساليب الكتابة، والتأليف.

والنقد الروائي يقع في دائرة النقد ومفهومه وإجراءاته التطبيقية بما يشدِّد من حصره كنقد Criticism وبما يعيد محتويات النصوص الروائية وما تعبر عنه سياقاته وعوالمها المحتشدة بالشكل الكتابي؛ وبينما يقوم النقد بالفحص -باختلاف مذاهبه- النصوص الروائية والنظر اليها من زوايا التصور الفني والتحليل الداخلي بصورة أكثر اقتراباً من الأحداث والشخصيات (الروائية) أو ما يعرف بالنقد الفَاحِصClose-criticism. فالنقد الروائي قد لا يكون نقداً منفصلاً أو مستقلاً في التعبير عن ماهية الخطاب الروائي. فإذا كانت ثنائية الفعل يستتبعها ما يحلق بها من صفة تفرق في حدة بين نقدٍ ونقد على سبيل المثال النقد الفلسفي أو السياسي أو التاريخي على تعميم المفهوم، فإن النقد الروائي لا ينتزع من مفهوم أكبر من النقد الأدبي.

التخلص من التراث النقدي الذي انبثق عن اتجاه ابداعي اوحد وهو الشعر لا يشارك الرواية إلا ما يتقاسمها من بنية اللغة مع استخدام يماثلها سرديا مغايراً، فلأن النقد حركة فيزيائية بين النصوص التي تختلف قوة جاذبيتها. والقول بـ "النقد الروائي" يفهم منه معالجة موضعية يكون مداره احداث الرواية بوصفها فضاء يحتوي احداثاً تصنعها لغة ويؤديها وصف وحوار في بنية سردية تنشؤها اللغة والخيال السردي.

الرواية والنقد:

توجد رواية عربية، ويوجد بالضرورة إن لم تكن الحاجة نقد، ولكن متى بدأ النقد والوقت الذي قطعته الرواية لتتوطن في المدونة السردية العربية ربما يقود إلى تساؤل تاريخي – وليس نقدي- يستتبع كيف واجهت النقد الرواية. البحث التاريخي وحده ليس كافياً الذي درجت عليه الكتابات العربية النقدية بالرجوع إلى النص الروائي الأول (رواية زينب) لمحمد حسين هيكل وصولاً عبر كافة المراحل التي عبرتها الرواية العربية وصولاً إلى عصرها الحالي الذي تسيِّدت فيه على ما عداها من نتاجات نثرية. تلك المرحلة التي عبر عنها الناقد فيصل دراج التي انطوت عليها ثلاث مقولات متلاحقة حددها بالتفاؤل الطليق، ونقيضه التشاؤم إلى مقولات الاحتجاج. وإن تكن الرواية العربية ارتكنت مؤخراً إل المادة التاريخية وهي ظاهرة تستدعي التوقف عندها.

دائماً ما كانت النظرية والمصطلح النقدي بمرجعياته الغربية مكان اختلاف ليس حصراً بين نقاد الأدب، ولكنها مشكلة أحاطت بالثقافة والعلم العربيين في العصر الحديث. فطفقت كتابات ودراسات نقدية تحاول في لأي إرساء لمصطلح النقدي عربي (الحديث) الذي انبثق عن مناشيء نقدية غربية. والشاهد، أن النقد لم يكن طارئاً على مدونة الأدب العربي كما راكمته الكتابات التراثية في نقد الشعر والخطاب الأدبي العربي قديماً بما فيها العلوم التي نشأت لمعالجة النص الديني حديثاً وتفسيراً وفقها؛ إلا أن الرواية نصُّ لم يكن مصنفاً ضمن الذاكرة التُّراثية شكلاً ومضموناً، بل هو نص جديداً لا قِبَل للكتابة العربية عهد به. والرِّواية العربية ولأسباب تأريخية وحضارية لم تستكمل فتوحاتها في التعامل مع الآخر وبالتالي التفاعل معه إلا في حدود ضيقة وتجربة بعينها؛ كروايات توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) وسهيل ادريس (الحي اللاتيني) والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) في مرحلة ما بعد الاستعمار. ولم تحدث الرواية العربية موجة في الآداب العالمية، وتنتج بالتالي نسخة عربية أو لونية مختلفة عن الرواية الغربية بأنماطها المختلفة. ثمة رواية أحدثت تحولاً في بينة الرواية وغيرت من عوالمها وفرضت اساليبها ومصادرها السردية كالرواية اللاتينية في عقد الستينيات والسبعينات من القرن الماضي؛ فما عرف بالواقعية السحرية (رواية اميركا اللاتينية) وأسماء لامعة في السرد العالمي مثل ماركيز، جورج امادو، غدت وما انتجت من أعمالهم قد شكَّلت وأعادت تشكيل البينية السردية للرواية العالمية خارج مركزيتها الغربية. وعالمية الرواية كما يفضل الكثيرون نسبتها إلى اللغات التي تكتب بها الروايات، وهي لغات مهيمنة على الفضاء العالمي بمؤثراته الحضارية وهذا ما لم يتوفر للرواية العربية، ومع الترجمة هي الوسيط الذي عبرت من خلاله الرواية بما فيها الروايات اميركا اللاتينية إلى العربية وهي جهود اضطلع بها مترجمون حاذقون. فإذا لم يتوج إلا روائي عربي وحيد بجائزة نوبل في الآداب (نجيب محفوظ 1988) مقياس العالمي للأدب؛ فإن الرواية العربية بالترجمة أم بلغتها الأصلية تواصل سعيها نحو عالمية مرغوب فيها. فقد تمدَّدت خارطة الرواية العربية بما شكلَّ اتجاهاً سردياً ضخمًا في الآونة الأخيرة وهو ما رأى فيه منتجو الرواية والمهتمون بالنقد الروائي عموماً ظاهرة صحية في المشهد الكتابي العربي.   

النقد والمصطلح:

المصطلح النقدي الغربي متنازع عليه بين أكثر من اتجاه إذ يرى تقليدي فيه تغريب لا تحتاجه قداسة العربية، وبين تيار حداثي ازاح هذا الموروث مما أفضى بالعملية النقدية ومفاهيمها إلى التحول إلى إشكالية يعصب تجاوزها Problématique وتداخل بين النظرية النقدية ودلالات المصطلحات النقدية مما اشاع فوضى استخدام المصطلح النقدي.  ومما بدا أن المشكلة تكمن في جذور الموقف الحضاري وليس الترجمة التي قابلت المصطلح لغُويًا وابقت على بعضها أي الاشتقاق تعريبًا بالمصطلح الترجمي.  ومع ذلك تسيِّد النقد التقليدي وطغى على ما عداه من نظم نقدية تنبني على أسس النظريات الحديثة في اللسانيات والنقد الثقافي الذي حاول إيجاد اتجاهات جديدة في بنية الفكر النقدي العربي. ولا يزال النقد العربي -الروائي- يعاني من مشكلات جوهرية نظرية تتجلي عند الممارسة التطبيقية.

التحليل اللغوي المساق التطبيقي لقواعد البنية التركيبة للغة حيث تأخذ المفردات داخل سياق العبارات والجمل تفسيرها عند مستوى تحليلي محدَّد؛ فاللغة مثلها مثل أي آلية متكاملة الأدوات لتؤدي مهمتها من حيث المفاهيم أو الإجراءات.  فسياق الرواية العربية ومرجعيتها لا تزال مشدودة إلى بعدها الاجتماعي وقيودها الناشئة عن حالة ليست قصوراً في الادراك مع التعامل مع واقع تحاول تجاوزه؛ ولكن كيفية استيعابه وتجاوزه في آن. وهي لا تستطيع الانفكاك من قيودها لتكوين عالمها المستقل، وعليه ربما اضطر النقد معالجة موضوعات الرواية دون الرواية في أصولها الفنية وهي محط الفحص والتقييم بالمنظور النقدي

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم