"أنا كاتب واقعي رومانتيكي" هكذا عرّف عن نفسه في أحد حواراته، ثم أضاف "إنني واقعي على سن الرمح وفي واقعيتي تجد الرمز والأسطورة".

ربما يُستَذكر الأديب الروائي السوري الراحل حنا مينة عند البعض من شهرة  العمل التلفزيوني المحول عن روايته "نهاية رجل شجاع"، لكنه للحق قامة أدبية رفيعة، لُقب بروائي البحر، حيث غلبت على أعماله نقله واقع المكان الذي ولد ونشأ فيه، فحضرت اللاذقية بقيمها الحضارية، لتبرز علاقة الإنسان بتلك الأمواج هادئة أو هائجة في الادب العربي الحديث.

كتب محمد عفيفي في مقدمة مجموعته القصصية "إن قيمة الادب بمقدار النجاح الذي يحرزه الكاتب في إشراك القارئ احساسه العميق الذكي، وهذا الاشتراك يتم بواسطة عاملين، اللغة المستعملة في السرد، والقالب العام الذي يصب فيه الكاتب مادته المسرودة. وتوفر هذين العاملين، أو غيابهما هو الذي يفسر الفرق بين مسرحية لشكسبير وبين تلخيص لها في مجلة الرسالة"

لا شك أن مينة طوع اللغة في سرديات أدبية، تكاملت فيها اختلاف الحكاية من رواية لأخرى، والتورط العاطفي الخلاّق ، متناولًا كافة  القضايا، سياسية، اجتماعية وانسانية، كالاستغلال وظلم المرأة.

وقد وصف في وصيته تجربته قائلًا: "كل مافعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لاجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولمّا أزل"

شبَّ مينة فقيرًا، توقف عن الدراسة بعد الابتدائية بسبب عوز اسرته، عمل في صباه خادمًا للكنيسة، ناضل ضد الاحتلال الفرنسي مبكرًا، أسس مع اصدقائه نقابات عمال في المرفأ، و بعد انتقاله إلى دمشق، عمل في جريدة الإنشاء الدمشقية، ثم أصبح رئيس تحريرها، ليبدأ كتابة القصص فالروايات، الدراسات والسيرة.

ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين واتحاد الكتاب العربي، وترجمت كتبه الى 17 لغة.

استهل الاديب السوري أول إصداراته بتجليات عن عالم الصيادين، "البحر كان دائمًا مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب"،  كما في روايات "المصابيح الزرق" "الشراع والعاصفة"، "حكاية بحار"، "الدقل"، "المرفأ البعيد" و "نهاية رجل شجاع".

كتب مينة عن الريف وأحياء المدن البائسة كما في "بقايا صور"، "المستنقع" التي تضمنت سيرته الحياتية بصدق وجرأة شديدين .

نعت علاء الديب رواية "الياطر" أنها عمل ملحمي كبير، أخرجت الرواية العربية إلى آفاق جديدة رحبة، واصفًا الكتابة "إن الصفحات لوحات تشكيلية لرسام يذوب في الطبيعة أو كاتب تبحر في سلاسة داخل واقع الإنسان ووجوده."

تمكن حنا مينة من رسم الآخر، وبلاد أخرى في أعمال عديدة مثل "حدث في بيتاخو"، "الربيع والخريف" و "حمامة زرقاء في السحب"، مستعينًا بخبراته الحياتية لخلق حالة ثقافية تخصه وحده، عبر عنها في كتب تحكي تجربته الروائية الابداعية منها " كيف حملت القلم" و "الرواية والروائي" قائلًا عن نفسه أنه"بابا نويل، أوزع الرؤى على الناس كي أفتح عيونهم على الواقع البائس"

أُطلق على مينة ألقابًا كثيرة، منها "نجيب محفوظ الرواية السورية"، "بلزاك الرواية السورية"، "زوربا الروائيين العرب"، "روائي الزمن الصعب" و "غوركي العرب".

خلّف الاديب السوري إرثًا عظيمًا للأدب العربي محّملًا تأويلات واسعة، تميز بمحاكاته للواقع، مستندًا فيه على رواية حدث ما، مبرزًا رؤيته عبر سياقات الحكاية و شخصياتها، لغاية "توفير المتعة والمعرفة للقراء" كما قال، وذلك عبر إطارات محكمة من التشويق، رصد الصراعات الباطنية وتصوير علاقاتها بالزمان والمكان.

حنا مينة قلمٌ ذهبي، لابد أن تحظى كتاباته من جيل القراء الحالي بالمطالعة والاهتمام، النقد والتحليل، بغية إحياء شخصه وفكره، تكريم جهده وابداعه، عدا عن فيض المتعة المصاحبة.

"غايتي أن أرى الناس سعداء، غير مملين، فرحين، جريئين، لا يخافون العاصفة.

أكره التفاهة، والأشياء العادية، والخبث الأفعواني، واللطف أيضًا ..

أنا لا أضمن كل شئ، كل إنسان ولكن التجارب هي المحك." الأبنوسة البيضاء 1976

ودعنا بحار الرواية في 21 آب- أغسطس 2018 تاركًا وصية بخط يده إلى محبيه وأهله، بألا يقام له دار عزاء، ولا حفل تأبين، و ألا يُلبس لأجله الاسود، واصفًا تلك العادات بالمنفرة والمسيئة "استغيث بكم جميعًا أن تريحوا عظامي منها".

"علي أن اودعه كبحار، لقد انتهى كل شئ الآن. لم يعد الماء ملعبي ومملكتي. كابرت كثيرًا، ورفضت تقبل هذه الحقيقة، وأصررت على أنني لن أهرم، وسأظل ذلك البحار الذي كنته، لكن الأعوام، الأعوام الطويلة، أوهنت قواي، وصار علي منذ الآن، أن أقف على الشاطئ، وأخوض في الماء بمقدار. سأسبح كما يفعل الآخرون، وقد أذهب في العمق قليلًا، لكنني لن أكون فارس البحر بعد اليوم. لقد ترجل الفارس …" حكاية بحار - 1981




0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم