أحمل شطيرة زيت وزعتر. كانت تلك العبارة تختصر ذاكرة الجوع التي لا تبارح من جرَّبه ذات مرة عن فقر حقيقي. لا تمسح وفرة المال المحدثة ما رسخ من ألم الحاجة، هذا كل ما تبقى له من ذاكرة وطن غادره ولم تفارقه آلامه.
كنت أراقب حرص صديقي على حقيبته، عندما اخترت المشي على طول الطريق المؤدية إلى ساحة "ألكسندر بلاتس" في برلين/ ألمانيا. سألته عن السبب، قال أخشى أن يطول مشوارنا فأجوع. لم ينتظر ردي. تابع في استفاضة، أحمل نقودًا قد تكفي، لكنني دائم الشك بأن حاجتي تفوق ما لدي. بصراحة، تلك مخاوف الماضي. في سورية، البطالة تأكل من أجسادنا. يومًا بعد يوم يصبح صوت أمعائنا الخاوية شبيهًا بأصوات القذائف التي تستهدف حياتنا، كلاهما لا يمكننا الاختباء منه، أو النجاة من شظاياه. هنا، في بلاد اللجوء، لا نخشى الفقر، لكنه معشش فينا، يرتدي ذاكرتنا ويمارس طقوسه في تفاصيل حياتنا.
لمرة واحدة، رأيت كنوت هامسون صاحب رواية "الجوع" يتحدث من جديد عن آلامه، يتفقد جسده الهارب منه، ويحاول أن يحمل رأسه المثقل بين كتفيه من دون جدوى. هذه المرة لا يتحدث عن رجل يعضه الجوع، بل يبوح بيوميات سوري قادم من تحت رماد الحرب، وشظف العيش، يختبئ من عيون المتلصصين عليه، يخشى من صوت حفيف الورق كما لو أنه أزيز رصاص. أحيانًا، ينخفض صوته حتى تتحول الكلمات إلى همس غير مفهوم، ثم يصرخ كأنه يستنجد من هلاك يستفزه، فيسرع في خطاه. كان عليّ أن أتفهم أنني أمام مخزون من المآسي قرر أن يفتح غطاء أسراره في اعتراف هو الأخير قبل أن يبدأ مراسم تشييع ماضيه.

"الجوع معركة ينتصر فيها الجائع عندما تصبح أمعاؤه تتوجع أكثر حين يزورها طعام الحسنات العابرة"

عندما دعوته إلى فنجان قهوة، اختار طاولة في منتصف المكان، كأنه يريد أن يقدم عرضًا مرئيًا لكل من حولنا. أمسك بهاتفه النقّال وطلب من النادل التقاط صورة. كانت الشاهد الوحيد على أنه للمرة الأولى يفتتح صفحة جديدة في سجل ذكرياته الباذخة كما قال. كنت مندهشة كل الوقت من قدرته على اكتشاف مداخل جديدة لإعطائي دروسًا عن واقع الكارثة التي حلّت في بلدنا: الحرب لا تقتل حاضرنا السوري، إنها تستهدف الماضي، تمحو من ذاكرة التاريخ جرائمه، لتصنع من أحداثها تاريخ المستقبل، شعب هائم على وجهه، كل ما يحمله هزائم واقعه، كل منا هرب من هزيمة إلى أخرى، تحت مسميات باهتة، النكسة (1967) التي أصابتنا ليست خسارة الحرب في حزيران/يونيو مع دولة احتلال اسمها إسرائيل، وإنما بقاء وهم الانتصار القادم في ظل واقع لم نغير فيه شيئًا، خسارتنا في حرب تشرين/أكتوبر 1973 كانت أكثر عمقًا، لأننا ما زلنا نتجرع توابعها، حرب النظام السوري على شعبه بدأت عندما استيقظنا على نشيد انتصار، وسط هزيمة نكراء، صفق لها الجمهور من دون استحياء.
الجوع معركة ينتصر فيها الجائع عندما تصبح أمعاؤه تتوجع أكثر حين يزورها طعام الحسنات العابرة. في بلاد اللجوء، نحن نأكل لنُشبع ماضينا، لكن حاضرنا يبقى يتلوى، سياط الحاجة تلاحقه، لأن الخوف منه مركزه الذاكرة، فلا ننعم بالرخاء حين يتوفر!
بصوت أقرب إلى الهسيس، قال: أنا جائع، هل يسمحون لي بتناول شطيرتي؟ أربكني السؤال، فابتسمت. قلت له: يتوفر هنا طعام أيضًا، مدّ يده إلى حقيبته وتلمس ما في داخلها كأنه يطمئن إلى مؤونته، وقال أنا كنت أعمل في مكتب دفن الموتى. كل يوم ألملم بقايا جثة، أو أكثر. سمعتهم يهمسون نحن جياع، منذ ذلك اليوم وأنا جائع مثلهم. الموتى في بلادنا تحت الركام يجوعون، وكذلك الممزقة أجسادهم، ونحن الهاربون من الموت يجلس الجوع معنا إلى طاولة الطعام، فلا هو يغادرنا، ولا نحن نستطيع انتزاعه منا. الطعام في تغريبتنا لا يشبع، لأنه ملفوف بهزيمتنا في أوطاننا، الجائع في وطنه لا يسد رمقه خبز الغربة، وأنا جائع منذ ولادتي في عام النكسة، إلى يوم رُحلت بباص أخضر، من ريف دمشق إلى إدلب، من نكسة الاحتلال إلى نكسة الحرية، ويوم أهديت للبحر كل أصدقائي، ونجوت وحيدًا على شطآن هذه الغربة، شبعت حيتان البحر من لحمنا، وبقيت أنا أحمل جوعي في حقيبة ظهري متنقلًا بين صفحات حكاية كل سوري.
إلى جانب طبقه، وضع شطيرة الزيت والزعتر، وكان بين اللقمة والأخرى يشمها مرة، ويقضمها مرة، وأنا أراقب دمعته التي يغالبها. كان يريد أن يسألني: من يدفع فاتورة الطعام؟ أشرت إلى النادل أنني باقية في مكاني في انتظار ضيف آخر، ليتمكن من المغادرة من دون أن يعرف أنني أنا الأخرى أحن إلى شطيرة الزعتر، وفي انتظار من يدفع فاتورة جوعنا المزمن، وعطشنا إلى وطن لا يموت فيه الجياع، ولا يجوع الموتى فيه.

المصدر: ضفة ثالثة 
 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم