ــ 1 ــ

النّقد، كما فهمتُهُ، هو فِعلُ تقييمٍ، وتقويمِ اعوجاجٍ، وتحديدِ المنزلة طبقًا للقيمة، عبر تمحيصِ النّصوص وتقليبها على أوجهها، وضبط القبيح والعيب والمثلب فيها، من دون إغفال أو إهمال الجميل والحسن فيها، أو العكس. وبما أنّه فِعلُ تقييم وكشف القيمة وتحرٍّ عنها، فلا يمكنه أن يزنَ النّحاس أو الفضّة أو الحديد، بميزان الذّهب.

ــ وهل هناك نقدٌ منافق؟

نعم. النّفاق، كسلوك إنساني، بما يمتلكه من معسول الكلام، يمكنهُ التّغلغل في كلّ مناحي الحياة. ولأنّ النّقد الصّادق الأمين الحريص على النّصوص، وعلى ضميرهِ وذائقته، نادرٌ وقليل، ويكاد أن يكون شحيحًا، ومع ذلك، نراه يتعرّض للمحاربة والحصار والاستهداف والطّعن والتّشكيك، من فيض النّقد المنافق؛ الذّرائعي، التّعسّفي، الذي ينسبُ للنصّ ما ليس له، ويقلبُ مساوئه إلى محاسنَ ومفاتن! ويقلب محاسنه إلى مساوئ، بل ربّما يفتري على النصّ، كيدًا وبهتانًا، عبر التدليس، وتلبس النصّ ما لا يليق، قسرًا وجورًا، وظلمًا، من دون سندٍ معتبر، وعن سابق إصرار وترصّد.

ــ وهل النّقد المنافق، أكاديمي أم انطباعي؟

كلاهما معًا. الأكاديمي منهُ شديدُ الخطورة، لأنه بعِلم، وذو حصانة أكاديميّة. والانطباعي منه، شرس واعتباطي، شعوائي، موتور، وخبط عشواء، لأنه بغير عِلم.

ــ أيّهما أقوى؛ النّقد المنافق، بشقّيه؟ أم النّقد الحقيقي؟

الواقع يقول: إنّ النّقد المنافق، هو الأقوى والأكثر شيوعًا وتداولاً وترسّخًا، وتسيّدًا، وفاعلاً ومؤثّرًا، وضاربًا جذورهُ، وممسكًا بخناق المشهد، ويسيّرهُ ويخيّره، بل يخدّرهُ أحيانًا. ومع ذلك، وبالرّغم من كلّ هذه السّطوة والسّلطة والهيلمان، أكثرُ شيء يرتعب منه النّقد المنافق، هو عناد النّقد الحقيقي وصبرهُ. ذلك أن شرارةً من الأخير، يمكن أن تقلق طمأنينةً بيادرًا من النّقد المنافق، وتنذرها بالحرق.


ــ 2 ــ

النّقد الأكاديمي والانطباعي، أحيانًا متحاربان، وأحيانًا متصالحان، وفق إملاءات ومقتضيّات الحاجة والمصلحة المشتركة. وأحيانًا، يكتشف النّقد الانطباعي، ما يعجز النّقد الأكاديمي الكشف عنه، في قراءة النصوص. بل يمكن لبعض النّقد الانطباعي أن يعرّي تورّط بعض النّقد الأكاديمي في تصدير نصّ تافه، والتعمية والتغطية على عيوبه. وهنا، تبدأ المكاسرة الشّرسة بين النّقد الأكاديمي شديدِ التّسليح، وأبرز أسلحته المقام العلمي، الشهادة، التخصص...الخ، وبين النّقد الانطباعي الأعزل الذي لا يمتلك سوى الذائقة، والبراهين والحجج التي يطرحها. هنا، إذا اكتشف النقد الانطباعي عيوبًا وقبائحَ جهلها أو تجاهلها النّقد الأكاديمي، يبدأ الأخير بمساءلة الأول، عن الشّهادة؟ التخصّص؟ اللغات الأجنبيّة التي يتقنها...الخ، وحرفِ أنظار النّاس عن كمّ المشاكل والعيوب الموجودة في ذلك النصّ، موضوعِ الجدل والسّجال. وبذلك، ما عاد النّاس تودّ مناقشة حجج وأسانيد النّقد الانطباعي، وصارت تطالبه بما يطالبه النّقد الأكاديمي؛ الشّهادة، التخصص، اللغات...الخ!


ــ 3 ــ

هنالك نقد انطباعي، أكثر أكاديميّة من النّقد الأكاديمي، لكنه بدون شهادة وتحصيل وحصانة علميّة متعارف عليها. وهنالك نقد أكاديمي، أكثر انطباعيّة من بعض أشكال النّقد الانطباعي، تراخيًا، وشططًا، وتهافتًا. لكن النّقد الأكاديمي يبقى مدعومًا ويحظى بحصانة علميّة. والنّاس ستقبل به، وتهلل له، وتخافه، وتحترمه، ليس لأنه على حقّ، بل لأنه فقط أكاديمي. وعليه، النّاس تحترم وتهاب شهادته، وليس اعوجاج رأيه، المصدّر إلينا على أنه نقد منهجي، علمي، أكاديمي. بخاصّة، إذا كان هذا الصّنف من النّقد، مدجج بالاستشهادات، لزوم الاستعراض، تغمز من مقولات: إيريك فروم، بارت، باختين، فوكو، ديريدا، هايدجر، أوستر، إيكو، كونديرا...، ضمن جمل طويلة، مركّبة، حلزونيّة، مبهمة، تخلق لدى القارئ تشتتًا ذهنيًّا، فيستسلم، ويقول: يا سلام على هذا الكلام، من دون فهم فحواه وجدواه.

كذلك هناك صنف من النقد الانطباعي، اللاعب على حبال العواطف والغرائز الدينيّة (حرام، حلال) أو المناطقيّة والقوميّة والوطنيّة (خيانة) أو الاجتماعيّة (استهداف الشّرف)...الخ، عبر التدليس والتسييس، وحرف النصّوص، بهدف الطّعن في نفوس أصحابها. في إذا انتقد أحدهم تحوّل مقاتلة كرديّة، تحت ضغط الظروف القاسية وإكراهات الحياة، إلى مومس، يجري اتهام الكاتب على أنه يستهدف شرف كل النساء الكرديّات. نقد تعميمي، تعويمي، يهدف إلى افتعال بطولات قوميّة ووطنيّة وهميّة، واختلاق عداوات وهميّة، عبر التلاعب بالعواطف، والتعويل على جهل القارئ. وهذا الصّنف، له كتّابه وأنصارهُ وقرّاؤه أيضًا، بالرّغم من هشاشة منطقه، وتهافت حججه.


ــ 4 ــ

يشتكي النّقادُ من النّصوص وانحدارها نحو الاستسهال والاستهبال والعبط والتّهافت والتّسطيح. وفي هذا الرأي الكثير من الصِّحَة والصّواب. ويشتكي الأدباءُ مِن النّقد على أنّه يتجاهلُ البعض، ويخصُّ ويجامل البعض الآخر، ببدائع التحميد والتمجيد والثناء والإطراء والمدائح. وفي هذا الرّأي أيضا الكثير من الصِّحَة والصّواب.

وكلُّ طرف يلقي باللائمة على الآخر في ما يخصُّ الانحدار والتّدهور الحاصل في الثّقافة، واستشراء الشّعوذة والتّهافت، وحتّى "البلطجة" و"التشبيح" في الأوساط الثقافيّة. لكن، كيف سيتطوّر النّقد، إذا لم يكن هناك تجريبٌ جادّ، يستند إلى وعي أصيل، وخيال وفهم عميق وأصيل لضرورات تطوير الذّات والنّص، غير مهووس بالتخريب والاستعراض الكذوب، بحجّة التجريب، الذي يعوّل على شبكة اخطبوطيّة من العلاقات العامّة، وجهل الحشود وتواطؤ المحيط؟ كيف سيتطوّر النّص، إذا لم يكن هناك نقدٌ أصيلٌ، منصفٌ، متوازنٌ، يتحرّى، يتقصّى، ممحّص، شديد الذّكاء، حسّاس، لديه مناعة شديدة ضدّ البهرجة وسطوة الأسماء وغطرستها، بأن يضع النّص في نصابه ومقامه الحقيقي. نقدٌ يرفضُ أيّ شكلٍ من أشكال المساومات والصّفقات مع هذا الكاتب/ة أو ذاك/تلك، ومتحيّز للجمال والإبداع الأصيل. نقد لا ينجرف نحو المكايدة، والتهديد والوعيد، والافتراء على النصّ عبر التهويل والعويل.


ــ 5 ــ

إذن، والحال هذه، هل الكتابة الأدبيّة والنّقد، بخير؟

لا، طبعًا. ولا أعرف الحلول والمخارج من هذا المأزق. طاقتي تحتمل فقط طرح بعض الأفكار، وإثارة بعض الأسئلة. وربّما تكون تلك الأفكار والأسئلة، غير دقيقة، أو غير صحيحة، وليست في محلّها! وربّما يسألني أحدهم: لماذا تمنح نفسك حقّ طرح الأفكار والأسئلة غير الدقيقة أو الخطأ؟ والجواب، بمنتهى البساطة، هو؛ لأنه من حقّه عليَّ، ومن واجبه، تصويبي، وتفنيد أفكاري، وإبطال أسئلتي، بما لديه من أفكار وأسئلة، بصدق وأمانة، من دون تحوير وتزييف وتدليس. فكيف ستكون على حقّ وصواب، إذا لم ارتكب خطًأ في مكانٍ ما؟! ولا يفهمَّن من ذلك أن هناك فعل عمدٌ لارتكاب الخطأ، كي تكون صائبًا، بل إشارة إلى جدليّة الخطأ والصّواب، التي هي إحدى جدليّات الحياة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم