بقلم: غراهام غرين - ترجمة: دلال الرمضان

في معظم رواياتي، يمكنني تذكر بعض المقاطع، أو حتى الفصول التي منحتني شعورًا غامرًا بالرضا وأنا أدوِّنها، فقد نجحت في ذلك على الأقل.


هذا ما شعرت به، وإن كنت مخطئًا، خلال مشهد المحاكمة في رواية "الرجل الذي بداخلي"، ثم في رحلة كيري في رواية "قضية ضائعة"، ثم في المشهد الغرامي بين الشخصيات الثلاث في رواية "الأمريكي الهادئ"، وبعدها في مشهد لعبة الشطرنج في رواية "عميلنا في هاڤانا"، كما هي الحال في الحوار الذي دار في السجن في رواية "القوة والمجد"، ثم حين أقحمت الآنسة پاترسون في الفصول المتعلقة بمدينة بولوني في رواية "أسفار مع خالتي". لا أظن أن أيًّا من كُتبي فشل في منحي شعورًا لحظيًّا بالنجاح ولو لمرة واحدة على الأقل، عدا "اسم الحالة".


مقتطف من "أسلوب حياة".

 

في معظم كُتبي، مهما بلغت معرفتي بالمشهد، فلا بد من وجود شخصية نمطية ترفض الحياة بعناد شديد، لكنها موجودة لخدمة النص؛ مثل شخصية كروغ في رواية "إنكلترا صنعتني"، وشخصية سميث في رواية "نهاية علاقة غرامية" وشخصية ويلسون في رواية "صُلب المسألة"، وشخصية الصحفي باركنسون في رواية "قضية ضائعة". والحق أن ما يدعو للأسف، هو عدم وجود متسع إلا لإبداع عدد محدود من الشخصيات في القصة، إذ تضيق القصة بأي محاولة ناجحة للخلق مثلما يضيق القارب بالحمولة الزائدة.


مقتطف من "سُبل الهرب".

 

إن التشويق لأمر بسيط؛ هو حالة ظرفية، وحدث فردي. لا ينبغي أن نُلبسه ثوب الأفكار والتشبيهات والاستعارات، فالتشبيه ليس إلا صورة من صور التفكر، أما الإثارة فتتعلق باللحظة التي لا نمتلك فيها وقتًا للتفكير. لا يمكن التعبير عن الفعل إلا بموضوع وفعل ومفعول به، وقد نحتاج إلى التناغم اللفظي أيضًا، وربما أكثر، إذ يمكن لصفة ما أن تُبطئ الإيقاع الدرامي وتهدئ أعصاب القارئ.


مقتطف من "أسلوب حياة".

 

ينبغي أن تكون للشخصية الرئيسية في الرواية صلة قوية مع كاتبها، فهي تخرج منه كما يخرج الطفل من رحم والدته، ثم يُقطع حبله السري ليبدأ بالنمو مستقلًّا عنها. كلما ازدادت معرفة الكاتب بشخصياته، أفسح المجال لتلك الشخصيات التي ابتكرها لأن تنمو وتتطور.


مقتطف من "سُبل الهرب".

 

أعتقد أن هنالك بعض النقاط التي تسترعي الاهتمام الأكاديمي في رواية "قطار إسطنبول"، فشخصية الراقصة الشابة كورال ماسكر لا بد أنها ظهرت على خشبة المسرح الملكي في نوت ويتش "نوتنغهام"، مثلما ظهرت شخصية آن في ما بعد في رواية "بندقية للبيع"، إذ يبدو جليًّا فيهما تأثير شغفي الممعن في القِدم بكتابة المسرحيات، والذي لم ينطفئ قَط. في تلك الفترة، كنت أفكر في مشهد أساسي، حتى إنني رسمت أحداثه على قصاصة ورقية قبل أن أبدأ الكتابة. "الفصل الثالث. فلان دبت فيه الحياة".


غالبًا ما تتكون هذه المشاهد من عزل شخصيتين تختبئان في عربة قطار كما في رواية "قطار إسطنبول"، أو في منزل خالٍ كما في رواية "بندقية للبيع". يبدو الأمر كما لو أنني أردت الهروب من سلاسة الرواية لأعبر عن أهم الحالات، على خشبة ضيقة تُمكنني من التحكم في كل تحركات شخصياتي. إن مشهدًا كذلك المشهد يمكن أن يعيق تطور الرواية، لكنه يضفي تركيزًا دراميًّا مثلما توقف لقطة مقربة صورة متحركة لبضع لحظات. اتبعت هذه الطريقة حتى في بعض آخر كُتبي كرواية "الكوميديانات". لقد تخليت عن قصاصة الورق تلك، وإلا لكنت كتبت عليها: "المشهد: مقبرة. جون وبراون يعودان إلى الحياة". قد يقال إنني وصلت إلى الذروة المنطقية لتلك المنهجية في رواية "القنصل الفخري"، التي تدور أحداثها بأكملها في كوخ خبأ الخاطفون ضحيتهم بداخله.


مقتطف من "سُبل الهرب".

 

كان تي إس إليوت وهربرت ريد أكثر شخصيتين عظيمتين تأثرت بهما في فترة شبابي (كانا يعجبانني أكثر من جيمس جويس، أما إزرا باوند، فقد كان بعيدًا عني إلى حد ما دائمًا. ذلك الرائد الذي لا يمكن للمرء أن يكون على يقين تام ببقائه في لحظة معينة). لم أكن أمتلك الجرأة على الاقتراب من إليوت أو ريد بنفسي. ثم ما الذي يمكن أن يثير اهتمامهما بمعرفة روائي شاب غير ناجح مثلي؟ لا بد أن الصدفة هي التي قادتني إلى لقاء ريد للمرة الأولى، فقد كنت فخورًا ومندهشًا ومتهيبًا بعض الشيء حين تلقيت رسالة منه يدعوني فيها لتناول العشاء معه.


"سيأتي إليوت ولا أحد غيره. سيكون كل شيء بسيطًا". بالنسبة لي، كان الأمر أشبه بتلقي دعوة من كولريدج يقول فيها: "ووردزورث آتٍ، ولا أحد غيره".


على ذلك العشاء، تحدثت وإليوت عن أرسين لوپين، وهو موضوع لطالما ساعد إليوت على البوح به بأريحية أكثر، وقد تصل تلك الأريحية إلى الشعور بالأمان تجاه الحسناوات اللاتي مررن جيئة وذهابًا بينما كن يتحدثن عن مايكل آنجلو.


مقتطف من "سُبل الهرب". 


عن موقع تكوين

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم