د: عبد الباقي جريدي

يحضرني وأنا أقرأ ولوج إلى خبايا الروح. للحسين لحفاوي " كبار الكتاب الذين التصقوا بواقع الناس وهمومهم حيث يلتقط السّارد الواقع دون مرجعيات فاضحة فينقله عبر مرآة الذّات إلى شخصيات ومواقف وفضاءات حالمة تذكرنا بنجيب محفوظ في نصوصه الواقعيّة  وحنّا مينه في المصابيح الزرق والشراع والعاصفة وبقايا صور وغيرها . ولكنّ نصوص الكاتب تستعيد في الكثير من الأحيان صورا ريفية طافحة بالجمال ليستعيد القص فضاءات الطبيعة والأشجار والأودية  بنبرة شفّافة حالمة تخلخل ما استقرّ في أذهاننا بأن القصة لها فضاءاتها المدينية تضيق بفضاء الرّيف وحدوده.

 ولكننا نستعيد في الكثير من اللحظات ونحن نتصفح بعض القصص .الأرض لعبد الرحمان الشرقاوي وعرس الزين للطيب صالح هذه الفضاءات التي يلتقطها السّارد ليدخل مع بعض مكونات فضاءاتها القروية في حوار يكشف عمق الصلة بينه وبين قريته وبعض عناصرها فنجده يحدّث الوادي بلغة مفعمة بالشوق طافحة بالانتماء " آه يا وادينا، يا شاهدا على قريتنا، بأي لغة ستكتب ذكرياتك بعد اليوم، و أنت الذي ظللت كل حياتك لا تصغي إلا لنفحات ألسنة سكان القرية؟ و بأي لغة سيجري ماؤك؟ و بأي عطر ستستبدل ريح صبارك و أشجارك؟ أأبكي حظي أم أبكي حظك؟ أنا الذي ذرعت مدائن العالم، لكني لم أجد ألذ و لا أمتع من الوقوف على جنباتك أحدق في مائك الرّقراق المنساب فتزهر نفسي." هذا الشوق الذي يمتدّ عبر ردهات القصص يشدك إليه ليبني عوالمه وشخصياته من اليومي الذي لا يسقط في الابتذال هذا اليومي الذي يكشف عن تحولات المجتمع التونسي وعن صعوبات العيش في المناطق( كدتُ أن أقول المهمشة ) لفرط ما لاكت الألسن هذه العبارة ففقدت معناها على ما تحمله من صدق واختزال لتوصيف ما وصلت إليه حالة سكان القرى والمناطق الدّاخلية ببلادنا سكان القرى التونسيّة الذين قتلهم الفقر وهدت ظهورهم معاناة البعد عن مراكز المدن هذا الفضاء الرّيفي الذي يستدعيه الكاتب ليرسم ملامح مجتمعات رغم بؤسها وانكسارها تسافر عبر المخيلة إلى رحابة الخيال فتستعذب أقاصيص بعض غرباء القرية مثل شخصيّة " عمّ العيدّ" الذي سحر بقدرته على القصّ صغار القرية - على تحذير الأمهات - فكان خير ذكرى تستعيد بها الذّاكرة ملامح طفولة هاربة هذه الذّاكرة التي لا تستدعي الأحداث والشّخصيّاتِ فقط ولكنها تستحضر ما استبدّ بها من مشاعر وأحاسيس تذكرنا بمادلين مارسيل بروست بروست (Marcel broust) في البحث عن الزّمن الضّائع    A la recherche du temps perdu و عن علاقة الذّكريات بالمشاعر التي تصطحبها ، وكيف ينقلُ السّاردُ ذلك الفيض من المشاعر والأحاسيس إلى نصّ رِوائيّ دُون أن تفقدَ المشاعرُ جذوتها وقدرتها على التّأثير. فتتحوّل إلى نصّ يقُومُ على الذّاكرة ويتقاسم مع القارئ مشاعر الوجد والحنين إلى الماضي.الذي عبّر عنه السّارد لحظة لقائه ذات صيف بالعمّ العيد فانثالت الذكرى مسكونة بعبق الحلم الطفولي الجميل " عندما حدقت في عينيه من وراء البلور لمحت فيهما بقايا طفولتي الآفلة و حبا يتلاشى و عمرا يتهاوى" هذا الشّوق الذي يستبدُّ بالقارئ في قصة  " هذيان آخر " هذه الأقصوصة التي ترصد لحظات عشق ولقاء محمومة يتحول فيه السّرد من الماضي إلى الحاضر باعتماد تقنية التّذكّر فإذا بنا أمام كتابة ذاكرية بامتياز تكسر "عنق الزمان"بتعبير المسعدي وهو يصف بطل روايته " حدّث أبوهريرة قال " .

هذه الكتابة التي لا تخضع إلاّ لسطوة الذاكرة وعنفوان حضورها المتجبّر فلا يقوم القصّ إلا عبر مصفاة الذاكرة حياة تكتب وتُستعاد فيحضر فيها المتلفظ في مضمون خطابه حضورا ساطعا. فلا معوّل على غير الذاكرة صلة ورابطة تشدّ أشتات النص وتعيد له انسجامه وتآلفه" يتكرر المشهد أمامي، و تعاد الأحداث، فما أسرع احتفال الذاكرة بالماضي، أراني وأنا أفتح ذراعي لاحتضانك و أنت تطئين أرضي بعد رحلة طويلة قضيتها، عبرت فيها حدود العالم، و قضمت أنا خلالها الحديد بعيدا عنك، تحاصرني ذكراك و يطربني الشّوق إليك" . هذه الذّاكرة التي لا تمثلُ مُجرّد معين ينهلُ منهُ السّارد أحداثه وشخصياته بل نجده يستحضر ذواكر نصيّة في لغة مرمرية ساحرة تذكرنا بما كتبه المسعدي في " حدث أبو هريرة قال " فإذا بأقصوصة " وجيب الصحراء " بعنوانها الفرعي"  حكاية في زمان غير زمانها  " تستعيد ذاكرة لنصوص قديمة موغلة في القدم فالعنوان  الرّئيسي ورد مركبا إضافيّا دلّ فيه المضاف على الصوت باعتماد لفظة قديمة تحيل على  الجانب الأكثر تعقيدا ورهافة في الإنسان  مكمن المشاعر وخزان الأحاسيس هو القلب فالوجيب صوت خفقان القلب في اضطراب ورجفة هذا الصوت الذي من العادة أن يكون مصدره الإنسان إلاّ أن السارد خرج به من دلالاته المباشرة ليصله بعمقه الاستعاري فأسنده للصّحراء ليجعل منها كائنا يخفق قلبه ويضطرب رجفة وانفعالا هذا العنوان الأصلي يجعل له عنوانا مصاحبا يعمق قراءتنا فكأنّ بالسّارد يخشى على نصه من الزّيغ  والتحريف فيُردفه بعنوان فرعي  ليوجّه عملية القراءة فيُحيل على مسألة الزمن  فالحكاية في زمان غير زمانها وهو ما يدفعنا للسّؤال عن أي زمن يتحدث السارد هل يشير إلى زمن الأحداث أم زمن الكتابة أم زمن القراءة ؟ هذا الغموض لا "يزيدنا سوى إصرار على إمكان الفهم " فقد استدعى الكاتب بنية نصية مخصوصة هي ثنائية السند والمتن ليعود بنا إلى فنّ الخبر ويشد النص إلى روافده الشفوية والتاريخية فيستعيد مراسم الشّفوية عبر استدعاء لجنس تليد جعل منه الكاتب وعاء ليحمل فيه معان ودلالات جديدة فيحاور النّصُّ الماضي في شكله ولغته وينفتح على جنس القصة فهل هذا النص قصة أم خبرا أم هي حكاية كما وسمها السّارد منذ العنوان؟  تنفتح شوارع من المعنى وسياقات تحتاج إلى قارئ منتبه ومتيقظ هذا ما وسم النصوص بتنوع وخصوبة نادرا ما نجدها عند الكثير من القصّاص يقوض ما استقرّ من أعراف الكتابة والتنميط ضاربا عرض الحائط مفهوم الأجناس الأدبية ليكتب قصة / حكاية / خبرا نصا هو كلّ ذلك وأكثر عبر تقنية سرديّة عميقة تخفي وراء بساطة جملها وتراكيبها وعيا بأحابيل السّرد وحيل الكتابة وأسرارها.

وما يميز الكتابة عند الحسين اللحفاوي هو عدم الانسياق وراء الدُّرجة في الكتابة فلا نجده يلهث وراء التجريب فلا نجد اللغة عنده تلتفّ حول ذاتها ولا تكتنف كتاباته الغموض والإبهام وإنّما تراءى لنا ونحن نقرأ ما كتبه أسلوب سلسٌ وتراكيب طريفة وصياغة تذهب بالمعنى بعيدا فلا تستعين بالغريب من اللفظ أو المعقّد من الصور والتراكيب ألم يقل الجاحظ " الاستعانة بالغريب عجزٌ " ولم يكُن الكاتب عاجزا عن تعقيد اللغة وإنما وجدناه يترفق بقارئه فيسافر معه إلى فضاءات قصيّة مختلفة متباعدة تعكس قدرة فائقة في معرفة أسرار النصوص فتشدّك إليها بتنوعها وفرادتها هي نصوص جامعة بتعبير بارط تفتح شهية القراءة وتردّك إلى طفولتك تبحث فيها عن ذلك الطفل القابع في أعماقنا فتحركه ذاكرة النصوص التي وإن تنوعت مشاربها واختلفت شخصياتها وتعدّدت فضاءاتها يشدها خيط رابط هو ذات كاتبة تعتمد على البساطة في الأسلوب وعلى واقعيّة بلا ضفاف بتعبير محمد برّادة واقعية لا تنقل الواقع نقلا مرآويّا ساذجا وإنما تعيد صياغته من جديد فتكون أشدّ دلالة من الواقع نفسه  فتجد نفسك مع العديد من شخصيات الرّواية وكأنك تقول في نفسك كنت أعرف هذه الوجوه حقّ المعرفة بهيآتها وكلامها وانفعالاتها ومواقفها وهو ما وسم النصوص على تعددها بأريج يمتدّ على كامل ردهات النص هو أريج المحبّة والعنفوان محبة الأرض وعشق شمسها وترابها والعودة بالطفولة عندما كنا نرى الأشياء بشفافية حالمة ونلتقط الواقع بدهشة فقدناها مع مرّ السنين وها هو الكاتب يستعيدها عبر حبر الذّاكرة وسطوة الكتابة .

باختصار شديد أرجو أن لا يكون مُخلاّ يمكن القول إنّ كتابة الحسين اللّحفاوي كتابة واضحة بتعبير كيليطو في الأدب والغرابة هي نصوص واضحة " يوجد فيها مصباحٌ داخلي يزيح الظّلمة عنها".

المصادر:

ولوج إلى خبايا الروح: حسين لحفاوي . تونس . قفصة . قطيف .2018

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باحث من تونس .

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم