عباس عبد جاسم

بعد أن صنّف هيغل الرواية بوصفها «ملحمة برجوازية»، جاء لوكاتش لينقض التوصيف الهيغلي في «إن الرواية ليست هي الملحمة»، ورأى باختين «أن الرواية نوع غير منته، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد»، لهذا لا يمكن أن تصل إلى نقطة من التطور في نموذج محدَّد، وبذا فالرواية عمل مفتوح داخل حقل الكتابة.
إذن، هل تطور الرواية والتجاوز المستمر لها – نتاج تحوّلات مجتمعية، وإن كانت كذلك ؛ كيف يمكن تفسير التحوِّل من نمط روائي إلى آخر، خاصة على مستوى ما يحدِّد دلالة الجنس وما يحدِّد دلالة النوع؟ ولكن ما يحدِّد الجنس وما يحدِّد النوع أيضا هو «الثقافة المتغيّرة»، لهذا تعد الأنواع أنساقا مفتوحة، متغيّرة، متبدّلة، متقلبة، بل يذهب رالف كوهين إلى «أن مفاهيم النوع تنشأ وتتغيّر وتنزوي لدواع تاريخية» ( ينظر: القصة الرواية المؤلف، ترجمة خيري دومة). فقد وصف نوثروب فراي «موبي ديك» بـ»تشريح رومانس» ولم يصنّفها رواية، و«ترستام شاندي» كذلك، حيث يتم فيها مزج عدد من تقاليد الأنواع الخالصة، في حين عدّها شكلوفسكي بأنها «أقرب الروايات تمثيلا ً للرواية»، بعد أن اتهمها بأنها ليست رواية، ولم يقل إنها ميتارواية، أي رواية داخل الرواية.
إذن، النص ينتمي إلى ثقافة ما، «تتغيّر مع التاريخ على نحو مشكالي- kaledoscopically ( كما يرى توماس كنت) وهذا هو السبب في صعوبة أن نقيّم أصنافا نوعية بناء على المستويات الهراركية للتقاليد غير المصوغة» (القصة الرواية المؤلف). وإزاء ذلك لم تعد الرواية نوعا أدبيا ملحمياً، كما ذهب لوسيان غولدمان إلى ذلك بقوله: «الرواية نوع أدبي ملحمي». ومن خلال معاينتنا النصية، نرى أن الرواية؛ منذ «الجلد المسحور» لبلزاك و«البؤساء» لفكتور هوغو و«مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير، قامت بتحطيم عمود السرد التقليدي، الذي انبنت عليه أصلا.
يقول الناقد الفرنسي جان إيف تادييه: «إن فن الرواية الذي كان يبدو في القرن التاسع عشر أقل أهمية من الشعر والمسرح، لا يجلس هذا الفن الآن في الصف الأمامي وحسب، بل إن الرواية امتصّت كل الأجناس الأدبية». ويقتبس انخنباوم من شـفريف أحد نقاد النقد الروسي المبكر، الذي قال عن الرواية منذ عام 1843 إنها «مزيج جديد من كل الأنواع، مع أصناف فرعية متنوّعة كالرواية الملحمية (دون كيشوت) والرواية الغنائية (فرتر) والرواية الدرامية (سكوت). وعلى الرغم من أننا في «مرحلة تحطيم القوالب والنماذج في تاريخ الحداثة»، فإن الكتابة منذ القرن التاسع عشر، لم تتوقف عن البحث عن يوتوبيا المجتمع الصالح. ونوجَّه عناية القارئ، إلى أن روايتي «البؤساء» لهوغو» و«الجلد المسحور» لبلزاك، أكثر تمثيلا ً للخروج على حدود الجنس، وأكثر تمثيلا ً لتفكّك النوع.
ورغم واقعية الوصف في رواية «البؤساء»، خاصة الوصف البانورامي للمجاري التحتانية لباريس، فإن هذه الرواية تتلاقى فيها الموضوعات المختلفة والأشكال والأنواع الأدبية من شعر ونثر ومذكرات وتاريخ وتوثيق، حيث تتخذ من تاريخ المجاري (البالوعات) رؤية من أسفل الطبقات إلى أعلاها، بأفق مفتوح على تناقضات العالم الطبقية. وإن كانت «البؤساء» خلاصة شكل مركّب من التاريخ والجغرافيا والبيئة، يتمفصل فيها ويتمازج تاريخ فرنسا المسكوت عنه، فإن رواية «الجلد المسحور» تسبق «الواقعية السحرية»، بتشكيل عالم تتقاطع فيه وتتلاقى كائنات فردية وقومية، تستدعى فيه أزمنة وأمكنة وشخصيات وأحداث بأفق مفتوح على مستويات متعدِّدة من الدلالات، تتخذ من «الجلد المسحور» رؤية روائية للعالم أجمع.
في رواية «البؤساء» يتماهى الوصف مع الخيال، وما يعنينا منها مجارير أو دهاليز باريس السفلية، بوصفها متاهة تحت الأرض: شوارع، مفارق، مساحات، أزقة، شرايين، مواصلات، فثمة بنى تحتانية لمجتمع يتشكل من مستنقع ينقصه الشكل البشري». وتمثل شخصية جان فالجان، «عدة طبقات اجتماعية؛ مهمشة، وضيعة، رثة، وعدة نماذج إنسانية، بحسب المراحل التي مرّ فيها، والأدوار التي قام بها» (سليم خليل قهوجي، فكتور هوغو، البؤساء دار الجيل، 2004 ). ويمثل تاريخ المجارير، تاريخ (الطبقات الرثة) الجريمة والحرمان والاستلاب وقذارات الحضارة، حيث يختلط الوحل بالأشياء النفيسة: الحلي الذهبية، الأحجار الكريمة، القطع النقدية، المداليات البروتستنتية، عبر بواليع نتنة، تروي ما يضطرم من كائنات وقوى مهمّشة في القاع، مذابح، اغتيالات، مجازر، كوارث اجتماعية، مياه قذرة تغسل أيد دامية، سجون طبقية مظلمة، ثورات أرضية يقوم بها الناس، وفي هذه الرواية تتقاطع البالوعات من تحت، لتمرّ عليها شوارع متقاطعة من فوق، تنتهي بدوائر وأبنية تنتهي بمتحف اللوفر أو نهر السين أو عند مفرق دوسرفيس. كتب هوغو في روايته: «إن تاريخ البشر ينعكس في تاريخ المجاري، وإن المجاري كانت بمثابة الضمير الحقيقي للمدينة».

إن «الجلد المسحور» تمثل رؤية مرآوية، تنبثق عنها سرود سائلة، تتشكل من خلال أدراج أو طبقات متعدِّدة. ولكن ما «الجلد المسحور؟» وما تعليل سيولة الأشياء التي تنبثق من السرد المتحرِّك بين الواقع والمتخيّل منه؟

إن رواية «البؤساء» تؤسِّس لتاريخ مسكوت عنه، يبدأ من أحوال فرنسا السياسية سنة 1789 حتى سقوط نابليون بونابرت 1815، والثورة ضد الملك لويس فيليب في 1832، حيث ينبثق هذا التاريخ من «بالوعة» في باطن الأرض «شبيهة بأخطبوط مظلم، ينمو تحت الأرض، كلما نمت المدينة فوق، ومن هذه البالوعة التي تضم بالوعات هائلة ينبثق السرد وفق بؤر ذات سرود متعدِّدة من حيث الأزمنة والأمكنة والشخصيات والأحداث.
أما في رواية «الجلد المسحور» لبلزاك (الجلد المسحور، بلزاك، تعريب فريد انطونيوس، 2008). رغم أن «ملموث أو الإنسان التائه» يشكل محور الرواية، فإن «الجلد المسحور» تمثل رؤية مرآوية، تنبثق عنها سرود سائلة، تتشكل من خلال أدراج أو طبقات متعدِّدة. ولكن ما «الجلد المسحور؟» وما تعليل سيولة الأشياء التي تنبثق من السرد المتحرِّك بين الواقع والمتخيّل منه؟ يقول أندريه بيار دومانديارك في المقدمة التي كتبها عن «الجلد المسحور»: «الجلد خرج أسود لمّاعا ً من عالم صوفي تسرّب إليه السحر». ولكن قبل معاينة «الجلد المسحور»، كبنية (تبنينت) بها الرواية، ينبغي معاينة الكيفية التي اكتشف فيها الشاب روفائيل ذلك العالم العجيب الغريب: «هنا في هذا المحل تتكدّس الكنوز الفنية، وغرائب الكون كلّه، لا كما في متحف من صنع البشر، وإنما كما في ذاكرة كائن هو فوق مستوى البشر». وقبل أن يصل تطور الرواية إلى التشيؤ، الذي قامت به الرواية الشيئية الجديدة عند آلان روب غرييه، وناتالي ساروت، وروبير بانجيه، وكلود سيمون وميشيل بوتور، كان بلزاك أوّل مَن احتفى بالوصف الشيئي بواقعية جديدة، أكثر تمثلا ً لدلالات الواقع المشيأة بتعدّد الدلالات، عبر الوصف الذي يحتفي بالمكان، والسرد الذي يتحرّك في الزمان.
وبذا كان الشاب روفائيل، ينظر من خلال «مرآة متعدِّدة الوجوه»: «نهضت أمامه بكميات هائلة، وجيلا ًوراء جيل، مجموعة صور مؤنسنة، مخيفة، مظلمة، فتراءى له العالم القديم بأبهى مظاهر عظمته». وتتوسع مرآوية السرد المتعدِّد الأدراج لاستيعاب طبقات عدة من السرد، كسرد المخلوقات العجيبة والأشكال الغريبة، وأفلاك الزمن، وصولا ً إلى القاعة ـ الطبقة الأخيرة، حيث تُجمَّع فيها آخر كومة من الأمجاد والجهود الإنسانية. وقبل الوصول إلى الطبقة الأخيرة لاكتشاف «الجلد المسحور» في صندوق من خشب الأكاجو، يقول الشيخ صاحب المتجر للشاب المجهول روفائيل: «لقد رأيت كل شيء»، وكان الشيخ يجمع في كيانه «العالم أجمع» من غير أن يكون مقيّدا ًبرباط الزمان والمكان. من هنا أخذ « الجلد المسحور» طريقه إلى جيب الشاب رفائيل، لتبدأ الرواية من جديد.
إذن، نحن إزاء رواية واقعية تاريخية متحوّلة متغّيرة بقوة التخييل، أسّست بوعي مبكر لنوع من كتّابة روائية عابرة لتقاليد الرواية التقليدية التي تنتمي إليها.
إن روايتي «البؤساء» و«الجلد المسحور»، هما إنموذجان لأهم تمثيلات الكتابة الروائية، وما تنطوي عليه من تحوّل وتجاوز في آن.
ومن أهم الاعمال العربية، التي قامت على التنافذ الأجناسي والتشظي وتحطيم ديكتاتورية الراوي بتعدد الرواة: «حدث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي / «ذات» لصنع الله إبراهيم/ «رحلة غاندي الصغير»– لإلياس خوري/ «السواد الأخضر الصافي» لعباس عبد جاسم.

القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم