سناء عبد العزيز

ظهرت بوادر الشقاق بين الكاتب التشيكي ميلان كونديرا وحكومة بلاده بمجرد صدور ديوانه «مناجاة»، حيث نددت السلطات بنبرته الساخرة، وإن لم تحظ مجموعاته الشعرية في حد ذاتها بالاهتمام الكافي. وعلى الرغم من نجاح مسرحيته «مالكو المفاتيح» عام 1962، لم ينل اعتراف الأوساط الأدبية إلا بعد نشر مجموعته القصصية «غراميات مرحة» عام 1963.

«المزحة»
بصدور روايته الأولى، «المزحة»، عام 1967، اتضح الأسلوب الكونديري التهكمي، بدءًا من العنوان، وهو ما حرص عليه في كل عناوينه التالية، مثلما حرص على الطابع الأوركسترالي في بناء أعماله، وتسارع السرد وتباطؤه، مستجلبًا تلك الروح الموسيقية التي تشربها من والده لودفيك كونديرا؛ عالم الموسيقى، ورئيس جامعة جانيك للآداب والموسيقى في برنو.
لكن «مزحة" بطل كونديرا التي صاغها في تلك الكلمات "التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي!"، قلبت حياته رأسًا على عقب، وعُدَّت بمثابة عداء للشيوعية، وبخاصة في ذلك الوقت العصيب من تاريخ بلاده، إذ تعقدت الأمور، وتم طرد لودفيك من الحزب، وهو الحدث الذي جربه كونديرا، هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950، وسيجربه مرة أخرى في عام 1970. أما روايته الثانية "الحياة هي في مكان آخر" فقد منعت تمامًا من النشر في التشيك.

«كتاب الضحك والنسيان»
بعد الاحتلال السوفييتي للتشيك، منعت جميع أعمال كونديرا من النشر في بلده، وفُصل من منصبه في الجامعة، فاضطر في عام 1975 إلى الهجرة مع زوجته فيرا هرابانكوفا إلى فرنسا. وهناك، بعد نشره "كتاب الضحك والنسيان»، الذي نعت فيه الزعيم الشيوعي غوستاف هوساك بـ«رئيس النسيان»، مستعرضًا الواقع بعد الغزو السوفييتي، وكيف دمرت الحياة الثقافية، ومنعت كثيرًا من الأعمال الأدبية العظيمة، مثل أعمال كافكا، تلقى أكبر ضربة موجعة من حكومته، بتجريده من الجنسية التشيكية.

أغوار الكائن المنسي
في فرنسا، عمل أستاذًا مساعدًا في جامعة رين ببريتاني، وحصل على الجنسية الفرنسية عام 1981. وتحت وطأة الظروف الجديدة، كتب رائعته الفلسفية "كائن لا تحتمل خفته" 1982،

««مزحة» بطل كونديرا التي صاغها بالكلمات "التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي!»، قلبت حياته رأسًا على عقب»

قارن فيها بين فكرتين جوهريتين؛ الخفة والثقل، ونشرت الرواية بعد عامين من تاريخ كتابتها، وبها وصل إلى مرتبة العالمية، وقال فيها: «إن الوجود في بلد أجنبي يعني المشي على حبلٍ مرتفع عن الأرض بلا شبكة أمان توفرها للمرء البلد التي فيها أهله وزملاؤه وأصدقاؤه، وحيث يسهل عليه أن يقول ما يشاء بلغة يعرفها منذ الطفولة». وكانت أفكاره عن الخلود والحب والجمال والهوية، وغيرها من الموضوعات الفلسفية، في روايته السادسة "الخلود» 1988م، آخر ما كتبه كونديرا باللغة التشيكية.
في مستهل التسعينيات، قرر الكتابة بالفرنسية، مثل صموئيل بيكيت، وإميل سيوران. فكتب بها مقالاته، وتأملاته حول الرواية، وجمعها في ثلاثيته الشهيرة الصادرة في أجزاء؛ «تأملات في فن الرواية"، و«الوصايا المغدورة»، و«الستار»، ثم في مجلد واحد، تحت عنوان «ثلاثية الرواية».
بعد عشرين عامًا من التدريس، كان قد طوَّع فرنسيته التي تعلمها في برنو، مسقط رأسه، بما يكفي لجعل القارئ يشعر بأنها لغته الأصلية، وهو يقلب صفحات الفن الروائي منطلقًا من مقولات فلسفية لهوسرل، وديكارت، وسرفانتس، وتولستوي، وجويس، ليصل إلى أن الفلسفة والعلوم قد نسيت كينونة الإنسان، فيما سعت الرواية إلى سبر أغوار هذا الكائن المنسي.

كاتب لا تُحتمل غربته
عُرف كونديرا في منفاه بحساسيته المفرطة، وميله إلى العزلة والكآبة، وعزوفه عن المشاركة في المعارض والمؤتمرات والفعاليات الثقافية، أو الإدلاء بأية تصريحات لوسائل الإعلام على

«في مستهل التسعينيات، قرر الكتابة بالفرنسية، مثل صموئيل بيكيت، وإميل سيوران»

مدى عقدين كاملين. وكانت أول رواية صدرت له بالفرنسية، «البطء» عام 1995، هي الرواية السابعة في مسيرته الروائية. وانتصر فيها المحارب المنفي للبطء، وربطه بوشائج خفية بقوة الذاكرة، كما ربط بين السرعة والنسيان في عالم متلاحق حد الدوار. ومثل أعمال كونديرا، لم تخلُ «البطء» من مناقشاته في السياسة، والثقافة، والتحرر الجنسي.
زار وطنه لأول مرة عام 1996، وهنالك تقارير تشير إلى أنه كان يزوره متخفيًا مرارًا، فقد ظلت فكرة الوطن حسب تصريحاته، غامضة بالنسبة له.
في عام 1998، صدرت روايته «الهوية»، بمفهوم جديد يتفق والوضع الكونديري الراهن، فلم تعد الهوية مرتبطة بالقومية، كما هو معروف، وإنما أصبحت هوية المرء أمام ذاته وأمام الآخرين.
في «الجهل»، شكل المنفى، وما ينجم عنه من انسلاخ الكائن عن بيئته الطبيعية، محورها الرئيس، بينما لعبت العبثية دور البطولة في «حفلة التفاهة» الصادرة عام 2014، أزمتي في مقابل أزمة العالم، منتصرًا حسب كلماته للخفة على الثقل "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد في الإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره للأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس للأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد».

حفلة التفاهة
في منفاه، ظل كونديرا يرفض بحسم ترجمة أعماله إلى التشيكية، فأثيرت كثير من التساؤلات

"في عام 2007، حصل كونديرا على جائزة دولة التشيك للأدب، وفي عام 2009 تم منحه المواطنة الفخرية في برنو»

حول علاقته بوطنه، بعضهم وجد في حرمان مواطنيه من فنه، نوعًا من التعالي، بينما اتهمه آخرون بالخيانة، وبخاصة حين نشرت الصحيفة التشيكية الأسبوعية تحقيقًا ادعت فيه أن كونديرا بلَّغ عن طيار تشيكي شاب كان يدعى ميروسلاف ديفوشارتشيك للشرطة عام 1950، ولكنه نفى عن نفسه هذه الاتهامات، ودخل في حالة من الضيق، زادت حدتها حين ظهرت سيرة أدبية بعنوان «كونديرا: الحياة التشيكية والأوقات»، كتبها جان نوفاك، وأثارت ردود فعل مثيرة للجدل، حيث انتقد كاتبها تمامًا كاتب المنفى الشهير بكلمات لاذعة.

لفتات من أرض الوطن
في عام 2007، حصل كونديرا على جائزة دولة التشيك للأدب، وفي عام 2009 تم منحه المواطنة الفخرية في برنو، وعلى الرغم من ذلك، حين دعي إلى حضور مؤتمر في برنو لمناقشة أعماله، أرسل رسالة إلى المنظمين يصف فيها المناسبة بأنها "حفلة مذلة"، وبأنه كاتب فرنسي، ولا بد من التعامل مع كتبه على أنها فرنسية، وتصنيفها ضمن الأدب الفرنسي.
بعد ما يزيد عن أربعين عامًا، تحديدًا في 2019، وجدت الحكومة أنه آن لكاتبها، مرشح نوبل الدائم، أن يسترد جنسيته. ومن ثَمَّ، قام سفير جمهورية التشيك، بيتر درولاك، بزيارته في شقته في باريس، ليسلّمه شهادة الجنسية، مصرحًا لصحيفة الغارديان اللندنية: إنها «لفتة رمزية مهمة للغاية، وعودة رمزية لأعظم كاتب تشيكي. لقد وجدته في مزاج جيد، تناول مني الشهادة، وقال: شكرًا»، ورأت الأوساط الأدبية التشيكية في هذه الخطوة إشارة إلى أن ترجمات أحدث أعمال كونديرا قد تظهر باللغة التشيكية.

فالس الوداع.. نهاية سعيدة
منذ أيام، بعد حوالي نصف قرن من الشقاق بين الكاتب التشيكي وبلده، تفاجأ العالم بإعلان رادوسلاف بوسبيشال، المسؤول عن مكتبة مورافيا في برنو، لشبكة CTK قرار ميلان كونديرا

«في 2019، وجدت الحكومة أنه آن لكاتبها، مرشح نوبل الدائم، أن يسترد جنسيته. ومن ثَمَّ، قام سفير جمهورية التشيك، بيتر درولاك، بزيارته في شقته في باريس، ليسلّمه شهادة الجنسية»

التبرع بمكتبته وأرشيفه من الوثائق والصور والرسومات لمكتبة برنو، المدينة التي ولد فيها في الأول من نيسان/ أبريل 1929 لأب وأم تشيكيين، هناك حيث تعلم الموسيقى والسينما والأدب، وحاضر في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية، ونشر أعماله الشعرية الأولى في الخمسينيات، وعمل محررًا في دورياتها الأدبية، هناك حيث عاش طفولته وصباه وشبابه.
رحب وزير الثقافة، لوبومير زوراليك، بقرار كونديرا وزوجته، ووصف الهدية بأنها «حدث ثقافي خاص»، مضيفًا أن هذا القرار يشير إلى أن علاقة كونديرا بهذا البلد وثيقة جدًا.
أعلنت مكتبة مورافيا بدورها اعتزامها إتاحة كتب كونديرا للطلبة والباحثين، ولكل المهتمين بأعمال مواطن برنو. وتتضمن المكتبة جميع أعماله الأدبية المنشورة باللغة التشيكية، والمترجمة إلى أكثر من 40 لغة أخرى، على أن يتم تزويدها بالطبعات التشيكية والأجنبية بناءً على اتفاق مع أصحاب حقوق التأليف والنشر.
يشمل التبرع كذلك أرشيف المقالات التي كتبها كونديرا، أو كتبت عنه، ومراجعات لكتبه التي جمعها ناشروه داخل جمهورية التشيك وخارجها، وصورًا فوتوغرافية تخصه، ورسومات له، وستتاح مواد الأرشيف للجمهور على نحوٍ أساسي في شكل رقمي. كما تم التخطيط لوضع أرشيف كونديرا في قاعة درس مستقلة تحمل اسمه، حيث يمكن عقد القراءات والنقاشات مع الكتاب ومناقشات حول الأدب والثقافة.
وهنالك ثلاثة أحداث مهمة ستتم في خريف هذا العام، أولًا: نشر أحدث رواية له "حفلة التفاهة" بترجمة تشيكية لأول مرة. ثانيًا: سيقدم المسرح الوطني في برنو عرضًا جديدًا لمسرحيته الصادرة عام 1962، "مالكو المفاتيح"، في 23 تشرين الأول/ أكتوبر. وثالثًا، سيتم نقل هدية كونديرا من شقته في باريس إلى وطنه أيضًا في خريف 2020، بالإضافة إلى أن كونديرا يعد بنفسه نسخة تشيكية من رواية "الجهل" مع المترجمة آنا كارينينوفا، ليتمكن مواطنوه أخيرًا من قراءتها.

العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم