هيثم حسين

يخلف الموت آثارا عميقة لا تمحى في أرواح الناس ووجدانهم، ويختلف التأثّر من شخص إلى آخر، لكن تبقى السمة المشتركة التأسّف على الراحلين، ومحاولات التأسّي بسبل مختلفة، تلجأ إلى استذكارهم واستحضارهم والالتفاف على الغياب عبر نسج أساطير تبقيهم حاضرين بصيغة أو بأخرى.

يبرع الأدباء بالتحايل على قسوة الموت، والمأساة التي يتركها في أفئدتهم، فتراهم يحبكون حكايات تروم تخليد اللحظات التي سبقت الموت، والحياة التي شكّلت ملامح لا تنسى في أذهانهم وذواكرهم، بحيث تكون الكتابة آلية دفاعية للتغلّب على الجراح التي ينتجها الرحيل، بالموازاة مع تشكيلها صيغة لتحدّي المعاناة والتغلّب عليها، واعتبارها وسيلة علاجية وأداة للتطهّر والمصابرة.

النصوص التي يدوّنها الأدباء عن أشخاص أعزّاء على قلوبهم بعد رحيلهم، تكون مراثي إنسانية تعبّر عن عمق المحبّة التي يكنّونها للراحلين الذين لا يودّون أن يصدّقوا أنّهم رحلوا، فيحيونهم عبر الكتابة، وإبقاء الحكايات عنهم مستعرة متجدّدة مع كل قراءة، وكأنّها صيغة لمواجهة الموت بالحياة والكتابة.

المراثي الأدبية تكون أساطير الغياب الحاضرة في تاريخ الأدب، تعبّر عن الهشاشة التي تستلب الإنسان كينونته، بالموازاة مع قدرتها على تضميد جراح أصحابها الأحياء الذين يجدون فيها تعزّيا ومواساة لهم، وغالبا ما يكون إضفاء صفات التعظيم على الراحلين واعتبارهم أبطالهم المميّزين الذين سلبتهم الحياة إياهم، وأبقتهم حسرات في القلوب وذكريات وصورا في الأذهان تجد طريقها إلى سطور الكتب.

أم ثكلى

كتب كثير من الأدباء نصوصا تستحضر أشخاصا أعزّاء على قلوبهم، وأغلب هؤلاء وثّقوا حكاياتهم وأحلامهم المحطّمة ومشاعرهم الدفينة وأسرارهم المفترضة، توجّهوا بها إلى الآخر الغائب، وأبقوه قريبا بصيغة أدبيّة تغالب الرحيل وتكابر على الغياب ومآسيه.

كتبت التشيلية إيزابيل الليندي كتابا عن ابنتها الراحلة باولا، وأسمته باسمها تخليدا لذكراها، وأشارت في بداية الكتاب إلى أنّها في شهر يناير 1991 أصيبت ابنتها باولا بمرض خطير، ثم دخلت بعد قليل في غيبوبة. وقد كتبت الكتاب خلال ساعات لا حصر لها أمضتها في ممرات المستشفى في مدريد وفي غرفة بفندق عاشت فيه عدة شهور، وكذلك إلى جانب سريرها في بيتها بكاليفورنيا في صيف وخريف عام 1992.

تخاطب ابنتها باولا قائلة لها “اسمعي يا باولا، سأقصّ عليك قصّة، لكي لا تكوني ضائعة تماما عندما تستيقظين”. ثمّ ترتحل بعد ذلك في سرد حكاية الأسرة التي تبدأ في القرن التاسع عشر، حين نزل بحار باسكي قوي على شواطئ تشيلي، وكان رأسه يتيه في مشاريع العظمة وتحميه تعويذة من أمه معلقة في عنقه. وتذكر لها من باب الاستقواء والتذكير بأسطورة العائلة لتعزيز الدعم النفسي.

تسألها “أين تمضين يا باولا؟ كيف ستكونين عندما تستيقظين؟ هل ستكونين المرأة نفسها أم أنه سيكون علي أن أروي لك بصبر تفاصيل سنوات حياتك الثماني والعشرين وتفاصيل سنواتي التسع والأربعين؟”.

وتخبرها كذلك أنّه حين تستيقظ ستكون لديهما شهور، وربما سنوات لتعيدا معا تركيب الأجزاء المفتتة من ماضيها، أو ربما سيكون من الأفضل أن تعيدا اختراع ذكرياتها على مقياس تخيلاتها. تقول لها أيضا إنها فقدت حساب الزمن في ذاك المبنى الأبيض الذي يسود فيه الصدى ولا ليل فيه على الإطلاق. وأنه تلاشت حدود الواقع، وأن الحياة هي متاهة مرايا متقابلة وصور مشوهة.

تسرّ لها بأنّها لا تدري كيف تصل إليها، تناديها وتناديها، ولكن اسمها يضيع في شعاب المستشفى، وتقول لها أيضا إنّ روحي مخنوقة بالرمل، والحزن صحراء قاحلة. كما تخبرها أنها لا تعرف كيف تصلي، ولا تتمكن من نسج فكرتين معا فما بالها بالغرق في إبداع كتاب آخر. وإنها تتقلب على صفحات كتابها في محاولة لا عقلانية للتغلب على رعبها، ويخطر لها أنها إذا ما أعطت شكلا لهذا الخراب فسوف تتمكن من مساعدتها ومساعدة نفسها، وأن ممارسة الكتابة التفصيلية يمكن لها أن تكون خلاصهما.

تعبر لها عن حزنها المديد، تحكي لها أنها أحست بأنها تغطس في تلك المياه الباردة وعرفت أن الرحلة عبر الألم تنتهي بفراغ مطلق، ولدى ذوبانها انكشف لها أن ذلك الفراغ مملوء بكل ما يتضمنه الكون.

وتضيف بأسى وحرقة أنّه لا شيء وكل شيء في الوقت ذاته. نور قدسي وظلال بلا قرار. تعرف نفسها بأنها الفراغ، وأنها كل ما هو موجود، وأنها في كل ورقة من أوراق الغابة، في كل قطرة طل، في كل ذرة رماد يجرفها الماء.تختم بأسى سردية الرثاء وحكاية الأسى المتجددة بأنها باولا وأنها هي نفسها أيضا، أنها لا شيء وكل شيء في هذه الحياة وكل الحيوات الأخرى، وأنها خالدة، وتودعها بالقول “وداعا يا باولا المرأة، أهلا يا باولا الروح”.

أب مفجوع

متلازمة القلب والوجه والجلد
متلازمة القلب والوجه والجلد

أما الكاتب والصحافي الكندي إين براون فإنّه يتحدث في كتابه “الصبي في وجه القمر” عن معاناة ابنه المريض ووكر الذي ولد بطفرة وراثية شديدة الندرة تسمى “متلازمة القلب والوجه والجلد”، وهو اسم فني لخليط من الأعراض. وكان ابنه يعاني من تأخر عام ولا يستطيع الكلام، ويذكر أنه لا يعرف ما المشكلة التي يعاني منها، ولا أحد يعرف.

كما يذكر أن هناك فقط ما يزيد بقليل عن المئة شخص في العالم الذين يعانون من هذه المتلازمة. يرتحل براون المفجوع برحيل ابنه في مجاهل النفس البشرية، يكشف عن المشاعر الكامنة في نفس الأب تجاه ابنه المعاق، وعن نظرته للأبوة والبنوة، وعن العلاقات والروابط الإنسانية التي تربط الناس ببعضهم بعضا، وتلك التي تفصل بينهم على أساس الإعاقة أو المرض أو التشوه.

يشبه براون مشاهدة ابنه ووكر بالنظر إلى القمر، يقول في ذلك “أنت ترى وجه رجل في القمر، ولكنك تدرك أنه لا يوجد أي شخص بالفعل هناك”. ويستدرك مسائلا نفسه: إذا كان ووكر لا قيمة له، فلم يحمل هذا القدر من الأهمية بالنسبة إليه؟ وما الذي يحاول أن يريه إياه؟ ويؤكد أن كل ما يريد معرفته حقا هو ما يدور في رأسه غريب الشكل وقلبه المتعالي، ويقول إنه في كل مرة يتساءل فيها عن هذا يقنعه على نحو ما بأن ينشغل بنفسه. يقول إن كل شيء يتعلق بابنه يضغط عليه ويرعبه.

يكتشف فيه أحيانا أمورا وعادات جديدة. وتكون الأدوية التي يتعاطاها مؤثرة عليه بشكل كبير. يصف ملامح وجهه وجسده، يقول بأنه يشبه جسد لاعب ملاكمة كبير السن، مربع، يشبه العلبة التي يشتري فيها القميص، عندما تكون في وضع قائم، وعلب ذراعيه، الأنابيب المصنوعة من مادة صلبة تمنعه من ثني مرفقيه، حتى لا يحدث جروحا رهيبة بالمنطقة العلوية في جمجمته طوال اليوم، تمنعه من تقوية عضلات أعلى الذراع، ولكن لديه عضلات قوية في ساعديه.

يقول إنه ما زال يتذكر حين كان ووكر طفلا صغيرا، اقترحت أم ووكر فكرة أن يضعوا سلة ألعاب في كل دور من أدوار المنزل، وكان رأيه أنها فكرة عبقرية، وظن أنهم حلوا المشكلة، ولكن بعد مرور كل تلك السنوات ما زالت هناك أمامه كما هي، مكدسة وكاملة تماما مثلهم في الغالب.

يقر بأنه تولدت لديه قناعة كبيرة بأن محاولتهم لتصور كائن كامل من أجزاء جسمه غير مكتملة النمو هو عمل من أعمال الإيمان المفرط، والذي لا يختلف عن أي عمل من أعمال شخص متطرف في حماسه. ويجد أن الأسئلة المستمرة المتعلقة بووكر، عن أفعاله ومقصاده وما وراءها، كانت أيضا نموذجا، إطارا يصورون به العالم البشري، وطريقة للعيش.

يؤكد براون أن ابنه ووكر أراه ما لم يكن يريد أن يراه، وأيضا ما لم يكن يراه لولاه، كقدرته على جعل أي لحظة تمر بالمرء ذكرى لا تنسى، وقدرته على تقدير أهميتها. ويؤكد أنه لا أحد منا يريد أن يكون مجنونا، ولكن هناك أهدافا عديدة لوجود حالات الجنون في حياتنا، بوصفها طريقا للتأمل الذاتي الصعب. ففي عالم ما قبل العلم، عصر شكسبير وسرفانتس، حين كان لكل من الفن والخيمياء والمنطق والوحي السماوي والخبرة نفس المكانة، كان الجنون كرمح مباشر في ظلام الوجود الإنساني. الإنسان الذي ولد للألم والحزن، فقط ليواجه الموت.

يقول إنه يواصل الحديث إلى الفضاء الأسود الذي به نقط بيضاء، وأنه يواصل الحديث إلى ووكر، وبالطبع ليس ووكر وحده من بحاجة إلى مواصلة السماع إليه وهو يتكلم، فهو نفسه الذي يحتاج إلى مواصلة الحديث إلى ووكر، ويخشى مما سيحدث إذا توقف عن ذلك.

وبعد، من اللافت أنّ الرثاء يبقى من الأغراض الأدبيّة المتجدّدة عبر العصور، لأنّه يعبّر عن مشاعر إنسانية عميقة في كل زمان ومكان، كما أنّه يمثّل نقطة تحفظ للراثي جزءا من توازنه الذي يتعرّض للاهتزاز حين يفقد الشخص العزيز على قلبه وروحه، والذي يظلّ حاضرا معه في حلّه وترحاله، فينقل حكاياته وتفاصيله وذكرياته معه إلى الورق لتكون المرثاة المؤسطرة له والملتفّة على قسوة الموت بالكتابة.

Thumbnail

العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم