عبدالدائم السلامي

لم تمض سنوات قليلة على وصول الشاب الأفغاني عتيق رَحيمي إلى فرنسا حتى نال جنسيتها وافتكّ له مكانًا مُشْمِسًا تحت سمائها الثقافية وصار من ألمع مبدِعيها. وهو أمرٌ نُقدِّرُ أنّ تحقيقَه ظلّ صعبَ المنال بالنسبة إلى غيره من المهاجرين الأفارقة والعرب، فلا يبلغه الواحد منهم إلاّ بعد مشقّةٍ في العمر. وقد فسّر عتيق رحيمي هذه الحظوة الفنية التي نالها بكونه لم يأتِ إلى فرنسا لاجئا سياسيًّا وإنّما هو جاءها لاجئا ثقافيًّا، وذلك في قوله: «في فرنسا لم أقدّم نفسي لاجئا سياسيا وإنما قدّمت نفسي لاجئا ثقافيا».
ولد عتيق رَحيمي في كابول عام 1962، وهو ينتمي إلى عائلة مولعة بالأدب الفارسي الكلاسيكي. وقد بدأ هو نفسه يكتب الشعر في سن الثانية عشرة. درس في المدرسة الثانوية الفرنسية الأفغانية في كابول خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان. وشارك مع والده في مظاهرات مندِّدة بحركة طالبان فسُجن معه لمدة تسعة عشر يومًا. وظلّ بعد الإفراج عنه تحت المراقبة والتهديد. وقد فرّ من الحرب في أفغانستان ومن واجب الخدمة العسكرية ولاذ بباكستان صحبة زوجته حيث طلب اللجوء السياسي في السفارة الفرنسية. ووصل إلى باريس سنة 1985، ودرس السينما بجامعة السوربون وتحصّل منها على شهادة الدكتوراه. وقد وصف مُحرّر «فرانس أنتير» إبداع عتيق رحيمي بأنه يقع بين الكتابة والصورة، وبين الحقيقي والخيالي، وبين الوطن والمنفى، واعتبر هذا المبدعَ رحّالةً بثلاثة أرواح هي الكتابة الروائيّة والإخراج السينمائي والتصوير الفوتوغرافي، بل قل هي الهند حيث عاش فترة من الزمن وتأثّر بالفلسفة الهندوسية، وأفغانستان، وباريس، وربما تكون أرواحه هي لغاته: الفارسية والفرنسية والإنجليزية، وهو في خلال تلك الرحلة لا يني يبحث عن لغة خاصّة به، عن لغة تصرخ وهي تقول الأشياء، وهذا ما عبّر عنه عتيق رحيمي نفسه بالقول: «في بداية كلّ عمل، أشعر بشيء يشتعل في داخلي، أشعر بأنّ هناك صرخة تدفعني نحو الكتابة، وأكون حينها مثل الطفل الذي يُعبّر عن رغبة مّا، فهو إمّا يبكي وإمّا يصرخ، إنها الكتابة التي تأخذني إلى اكتشاف ما أريده حقًا».
نشر عتيق رَحيمي ستَّ روايات تُرجمت إلى لغاتٍ عديدة وهي «حجر الصبر» التي حازت على جائزة غونكور سنة 2008، و»ألف منزل للحلم وللرعب»، و»ملعون دوستوفسكي»، و»أرض ورماد» التي تحصّلت على جائزة الأدب الفارسي في إيران سنة 2010، و»أنشودة القلم» و»السقّاؤون». ويصف في رواياته الحروب والمصائب التي ابتليت بها أفغانستان لعقود طويلة، إضافة إلى ثيمات الحبّ والحريّة والمنفى الذي يقول عنه «أعتقد أنني سأظلّ لاجئًا إلى الأبد». وقد حوّل روايتيْه «حجر الصبر» و»أرض ورماد» إلى السينما، ناهيك عن إنتاجه أفلاما وثائقية حول أوضاع المهاجرين الأفارقة الاقتصادية والثقافية، وسجناء الرأي، وأسرى الحروب. وعن سؤال انتمائه الدّيني قال عتيق رَحيمي لإذاعة فرنسا إنه ملتزمٌ في حياته بانتمائه إلى السلام والتسامح، وأضاف: «لدي دين شخصي، أنا بوذي لأنني مدرك لضعفي، وأنا مسيحي لأنني أعترف بضعفي، وأنا مسلم لأنني أحارب ضعفي».
وفي تقديمه لفيلم «حجر الصبر»، مجَّدَ عتيق رَحيمي حريّة الرأي، وحريّة الكلام، وقال إنّ في هذا الفيلم، توجد قصة امرأة تتحدث. فالفيلم رواية عن الكلام قبل أن يكون رواية عن المرأة. وأكّد رَحيمي أنه ليس عالم اجتماع، ولا من دعاة النسوية، وإنّما هو فنان يروي قصة، ويكشف لنا عن أهميّة فعلِ الحكيِ. ذلك أنه لو سألنا أنفسنا لماذا وقعت أفغانستان في مثل هذا العنف؟ فالإجابة ستكون قولنا «لأنّ الكلام فيها لم يكن مباحا». وعلى حدّ رأيِ إحدى شخصيات رواياته، فسواء تكلم المرءُ أو لم يتكلّم، فإنّ الكلمة تظلّ دومًا أقوى من الموت.

القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم