زياد محمد مبارك – السودان

في مقال للروائي د. أمير تاج السر بصحيفة القدس العربي وقف فيه على إحدى وظائف الإبداع معتبراً أنها من أهم منظومات الكتابة الإبداعية. وهي الموجَّهة في التوثيق لأحداث تاريخية، سواء كانت تلك الأحداث اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، وفنية أيضاً، جنباً إلى جنب مع كتابة التاريخ الرسمي الذي يقوم عليه الأكاديميون وكتبة التاريخ. وذلك حتى تصير المادة التاريخية أكثر ملاءمة للقارئ من التاريخ الخشن الصارم.

 وهذا التعليل تُضاف إلى وجاهته فوائد أخرى، حيث أن التاريخ في أضابيره القديمة يقلُّ المنكبّون عليه، وفيه غير الأحداث الشهيرة كثرة من الأحداث والمواقف التي غيّرت مجرى التاريخ ومع ذلك لم تبلغ سقف الشهرة والذيوع. فهي مواد طازجة لالتقاط إبداعي ينفض ما تراكم على أوراقها من غبار، ويدسرها في قوالب إبداعية مثل الرواية. 

 وربما تحاول الرواية التاريخية طرح ما يعدُّ من مباحث فلسفة التاريخ التي تُعنى بمعنى التاريخ وقوانينه واتجاهاته. فالرواية التي تستوحي من أحداث السجلات التاريخية، تحمل رؤية المؤلف لهذه الأحداث، وهنا يكمن فارق بين الموضوع والرؤية يقدَّم من خلاله الحدث التاريخي مسقياً بعناصر الكتابة الإبداعية وأهمها الخيال الذي يكسبها إيراق الأدب وقشابة الكتابة. 

 هذا عن الأحداث المقتطفة من الوقائع الماضية، وهناك ضرب آخر غير ذلك من الرواية التاريخية، يستند على التاريخ المتخيّل من بنات خواطر المؤلف. وهو تصنيف وقف عنده أيضاً د. أمير تاح السر في مقال عن كتابة التاريخ روائياً بكتابه (ضغط الكتابة وسكرها.. كتابات في الثقافة والحياة)، بقوله: «أتحدث عن النوع الآخر من الكتابة التاريخية، أي النوع الذي لا يعتمد الوثيقة، ولا يحفل بما كتبه المؤرخون كثيراً، هنا يمكن للروائي في هذا النوع من الكتابة أن يصنع مخطوطات خاصة بنصه، ووثائق هو من كتبها، وتحيل إلى تاريخ لم يحدث إطلاقاً إلا داخل النص الذي كُتب، ولكن يوهم القارئ بأنه تاريخ حقيقي».

 ويبدو على ضوء هذا التصنيف مدى الإجحاف الذي يمكن أن تتعرّض له رواية تاريخية ما، عندما تتم محاكمتها بالمقارنة رأساً برأس مع الصفحات المكدَّسة في خزانة التاريخ. للعثور – من قِبل الناقد – على اختلافات بين الأحداث الروائية والأحداث المطمورة تحت غبار السنين. وهذا جراء تناوله للرواية التاريخية على أنها من النوع الأول المطابق للتاريخ، بينما هي تنتمي إلى التاريخ المُتخيّل الذي صنع المؤلف قبته، ونسج تحتها عالمه الذي يريد.

 مثل هذه الكتابة التاريخية نلمسها في رواية مارخدر لعمر الصايم، ومثل هذا التناول نلمسه في القراءة النقدية لإبراهيم إسحاق إبراهيم حيث اعتبر أن الصايم (يشرشح) تاريخ السودان لفترة حدّدها بين حاصرتين من المائتين وخمسين عاماً قبل الميلاد وحتى الحاضر. والرواية في أحيازها الزمانية جميعاً هي متخيّلة لا تُحاكَم هكذا، ولا تُعتبر من قبيل هدم التاريخ والعبث بأحداثه إلا من باب العسف وعدم تمييز التصنيف الذي ذكره د. أمير، والذي فيه سعة للمؤلف ومتّسعٌ لنسل الخيال.

في حديث مع صديقة روائية أشركتني في مطب برواية تعكف عليها للبحث عن شخصية تاريخية كخلفية ذات صفات معينة تؤدي دوراً في التأسيس لأحداث تنخرط فيها شخصيتها المعاصرة. كان التفكّر في الشخصية المناسبة ماتعاً. وسوف أنتظر بفارغ الصبر انتهاء الرواية لأرى هذا التاريخ المقبور وهو مشحون بدفقات الإبداع التي تبعثه إلى الحياة في عالم الرواية.

 أجزم أن الاتكال على الخيال لنسج شخصيات وأحداث ومن ثَم تقديمه كتأريخ متخيّل؛ هو أسهل من كتابة التاريخ إبداعياً كما هو بنفس أحداثه. ورغم أن الأحداث هي جاهزة، ويضيف إليها المؤلف في مطبخه ما يرى وجاهةً في حاجته له من عناصر روائية. ولكنها تشغل المؤلف بالبحث في كتب التاريخ، والغَرفِ من المؤرخين ورواتهم، ويتسع له المجال كلما توغّل فيما اختلفوا في روايته، وتضاربوا في رؤيته. ومثل هذا كثير جداً. فما كتبه اليعقوبي في تاريخه عن أحداث بعينها يخالف ما سجّله ابن كثير والطبري. وما كتبه الفارسي علاء الدين عطا ملك الجويني كاتب خانات المغول ووزيرهم، عن جنكيز خان في كتابه (جهان گشاي)، أي فاتح العالم، ليس هو نفسه ما كتبه ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) عن المغول وهو يسجِّل أنه أحجم مُعرضاً عن التأريخ لهم لعدة أعوام. ثم عندما كتب عن جائحتهم قال: «فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً.. فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله – سبحانه وتعالى – آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها». وهم عنده – المغول – أعظم من فتنة الدجال. 

 إذن فالمؤلف يجد أن التاريخ يُسجَّل من مختلف الزوايا، فهناك من يؤرخ لسلطان الغزاة وهيبتهم، وهناك من يقف على طرف الدماء التي غسلوا بها الأرض التي مرّت بها جيوشهم. وهنا ألتقط نصيحة قيّمة للمؤلف أزجاها له د. أمير: «على الكاتب أن يقيم لمدة طويلة في أجواء الفترة التي يود صناعة تاريخ موازٍ لها، أن يعيش في الجو السياسي الذي كان سائداً، بكل حسناته وعيوبه». 

  من جانبه ينحاز د. أمير تاج السر للرواية التاريخية المتخيّلة: «شخصياً، أميل لكتابة الرواية التي تكذب إبداعياً، وتنسج الفخاخ الوهمية». ومع ذلك فهو يؤكد: «إن في التاريخ عوالم مخبأة دائماً، وربما تكون أكثر إدهاشاً من عوالم متوفرة في الزمن المعاصر».

• مقال لأمير تاج السر (من وظائف الإبداع)، القدس العربي.

• مقال (كتابة التاريخ روائياً)، كتاب (ضغط الكتابة وسكرها.. مقالات في الثقافة والحياة).

• (الكامل في التاريخ) لابن الأثير.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم