معاوية عبد المجيد

«إنّ “وفاء” التَّرجمةِ المُصرَّحَ به ليسَ معيارًا يضمنُ التَّرجمةَ الوحيدةَ المقبولةَ (وبالتّالي يجبُ أن نُعيدَ النَّظرَ حتّى في الغطرسةِ أو العجرفةِ […] التي يُنظَرُ بها أحيانًا إلى التَّرجماتِ على أنَّها “جميلةٌ ولكنَّها خائنة”). الوفاءُ هو بالأحرى أن نعتقدَ أنَّ التَّرجمةَ هي دائمًا ممكنةٌ إذا أوَّلنا النَّصَّ المصدر بتواطؤٍ متحمِّسٍ، هي التعهُّد بتحديدِ ما يبدو لنا المعنى العميق للنَّصّ، والقدرة على التَّفاوض في كلِّ لحظةٍ بشأن الحلِّ الذي يبدو لنا أسلم»1.

بهذه العبارةِ يُوشكُ أُمبرتو إيكو أَن يَختمَ كتابَهُ المشهورَ عن التَّرجمةِ «أن نَقولَ الشَّيءَ نفسَهُ تَقريبًا»، الذي باتَ مرجعًا أساسيًّا لمُعظَمِ المترجمين. وقد دأبتُ على أن تكونَ هذه العبارةُ بوصلةً موجِّهةً لعملي في التَّرجمة الأدبيَّة، إلاّ أنَّ صعوباتِ تطبيقِها تتضاعفُ في حالِ كونِ الكتابِ الذي تُرادُ ترجمتُهُ هو لِصاحبِ تلك العبارة.

استغرقَ عملي على هذه الرِّوايةِ نحوَ عامَينِ، أَمضَيْتُهُما بينَ قراءتِها وإعادةِ قراءتها مرارًا والاطِّلاعِ على القَدْرِ الهائلِ من المصادرِ والمراجعِ التي اختَزَنَها إيكو بين دفّتَي الرِّوايَة. وقَد عَجَزْتُ عن ترجمتِها دفعةً واحدةً، لأنَّها كانَت تُصيبني بِتُخمةٍ معرفيَّةٍ في كلِّ صفحةٍ من صَفَحاتِها، إذ إنَّ «التَّفاوض» المُشارَ إليه آنِفًا يمتدُّ فيها ليشملَ أُدباءَ لا حَصرَ لهم ونُصوصًا مُعقَّدةً. فقرَّرْتُ أن أعُدّ الرواية بِمَنزلَةِ مرضٍ مُزمِنٍ، وأن أُعايِشَها على مدى الأيّام، وأن أَحيا حياتي بِكلِّ تلقائيَّةٍ وأن أُنجزَ التَّرجماتِ الأُخرى التي كُنْتُ قد قطَعْتُ وَعدًا بإنجازِها. وهذا بالتَّحديد ما يُمكنُنا تسميتُهُ «الحياة المُوازية». إذ لا يُمكنُك أن تَرفُضَ عرضًا يقدِّمُهُ إليكَ السَّيِّد أُمبرتو لاصطحابِكَ معه في رحلةٍ لا تنتهي، تبدأُ بالتّاريخ وتنتقلُ إلى الجُغرافيا وتمرُّ بِعلمِ الأعصابِ ثمّ تُعَرِّجُ على الفلسفةِ والدِّينِ وأزياءِ الشُّعوبِ والفاشيّةِ والطفولةِ والرِّواياتِ الدَّفينةِ والرَّسمِ والسِّينما وأرشيفِ الوَرَقِ والإغواءِ والشَّهوةِ والحُبِّ، وما إلى ذلك. لكنّي كُنْتُ في كلِّ خطوَةٍ أخطوها أشعرُ بالنُّضجِ، النُّضج «المُوازي»، وكلَّما التقطتُّ معلومةً سجَّلْتُها، وبحثْتُ عنها في مَجاهلِ الإنترنت، ووثَّقْتُها من عِدَّةِ مصادرَ، ثمّ كُنْتُ أضعُها في قسم الشُّروح، كي أُوفِّرَ على القارئِ مشقَّةَ مُطاردةِ المعاني والمفاهيم وكي أحتفظَ بمُتعةِ المشقَّةِ لِنَفسي. وآثَرْتُ أن تكونَ الشُّروحُ في قسمٍ خاصٍّ بها، تجنُّبًا لإثقالِ النَّصِّ الجميلِ بالهوامشِ، ومنعًا لقطعِ سلاسةِ القراءةِ، والتَّشويشِ على القارئ وإيقاظِهِ من سَكرتِهِ. وكذلكَ تجنَّبتُ وضعَ العلاماتِ، واكتفَيْتُ بإمالةِ الكلماتِ وتغليظِها في مُعظم الحالات. فمن أَرادَ مزيدَ معرفةٍ عَرَفَ أينَ يَجِدُها، ومَن لم يرتوِ فهنيئًا له الإبحار!

وقد سخَّرْتُ لهذا العمل تقنيَّةَ «المقارَنَة بينَ التَّرجماتِ المتعدِّدَة»، وهيَ التّقنيَّةُ التي درستُها وطبَّقْتُها في ترجماتٍ سابقة. فاعتمدتُّ على شُروحِ المترجمِ الأمريكيّ جوفري بروك، وعلى بعضِ التراكيبِ في ترجمةِ الفرنسيِّ جان نويل سكيفانو، وعلى نِقاطٍ مُعيَّنةٍ في التَّرجمةِ الإسبانيَّة. فأَن «تُفاوِضَ» عملاقًا مَهيبًا بحجمِ أُمبرتو إيكو، مُستدرِجًا إلى صفِّك عِدَّةَ مُترجمِينَ لهم باعٌ في ترجمةِ رواياتِهِ ولا سيَّما هذهِ، خيرٌ لكَ من أن تُفاوِضَه وَحيدًا. وبِهذا وَحدَهُ، يُمكِنُ إدراكُ ما قصدَهُ المُترجمُ القَديرُ حسن عثمان بـ«الاستئناس»، حينَ قرَّرَ أن يُترجِمَ «الكوميديا الإلهيَّة» لدانتي أليجييري، عن الإيطاليَّةِ مباشرةً، لكنَّهُ رَجَعَ «إلى بعضِ التَّرجماتِ الإنجليزيَّةِ (والأمريكيَّةِ) والفرنسيَّةِ شِعرًا ونَثرًا، لِلاستئناسِ بطريقتِها في التَّغلُّبِ على صُعوباتِ التَّرجمة»2. على أَنّي لَم أَخطُ خطوَةً في مُواجَهَةِ أَيَّةِ صُعوبَةٍ إلاّ أَشَرْتُ إلى ذلك في قسم الشُّروح.

ولا يَنبَغي أَن يَغيبَ عنّا أنَّ هذه الرِّوايةَ قد خَصَّها أُمبرتو إيكو بالصُّوَرِ والرُّسومِ، وكانَ أكثُرها من مكتبتِهِ الشَّخصيَّةِ، حتّى إنَّ بعضَ النُّقّادِ عدَّها سيرةً ذاتيَّةً متخفِّيةً بلباسِ السَّردِ الروائيّ. غير أنَّ هدَفَها أَكثرُ تَعقيدًا من ذلك. فالرِّوايةُ إذ تتناول موضوعِ الذّاكرةِ وفقدانِها واستعادتِها، تُتيحُ مجالاً واسعًا للصُّورةِ البصريَّةِ، ليَمتَحِنَ القارئُ قدرتَهُ على تمييزها مِن الصُّورةِ الذِّهنيَّةِ، وقياسِها بالكلمةِ التي تُعبِّرُ عنها. ثمّ إنَّ هذه الصُّورَ والرُّسومَ بمنزلةِ الجداولِ البيانيَّةِ والخرائطِ التَّوضيحيَّةِ والأشكالِ الدَّلاليَّةِ التي نجدُها بوفرةٍ في كِتاباتِهِ الأُخرى، الفكريَّةِ والأَدبيَّةِ على حدٍّ سواءٍ. وقَد دعا ذلكَ القائمينَ على إدارة النَّشرِ في دار الكتاب الجديد المتَّحدة – مَشكورينَ – إلى الاعتِناءِ بها وتقديمِها مُلَوَّنةً وكاملةً للقارئِ العربيّ، إيمانًا منهم بأنَّ الجُهودَ الجادَّةَ والمسؤولةَ هي وحدَها المثمرةُ، وحِرصًا منهم على تنفيذِ وصيَّةِ إيكو التي نَصَّتْ بوضوحٍ على عدمِ إعطاءِ المُوافقةِ على حُقوقِ ترجمةِ أيِّ كتابٍ مُلَوَّنٍ لأيّ دارِ نشرٍ أجنبيَّةٍ إذا أصرَّتْ على طباعتِهِ طباعةً اعتياديَّةً، من أَجلِ أَن يَظهَرَ الكتابُ بالمُواصفاتِ أَنفُسِها وأَن يُماثِلَ الطَّبعةَ الأصليَّة. ولعلِّي أَغْتَنِم الفُرصة هُنا لأُحيّي العاملين في هذه الدّار على صَبرهم وتفانيهم في العملِ على التَّرجمات الصّادرة بما يليقُ بها، كما نُحيّي معًا الدَّكتور أحمد الصُّمعي الّذي كان أَوَّل من عرَّفنا على هذا الكاتب الكبير وتَرْجَمَ لنا أهمَّ أعمالِهِ الفكريَّة والروائيَّة.

أمّا الرِّوايةُ في حدِّ ذاتِها، فالحديثُ عنها يَطولُ، وقد يكون غيرَ مشروعٍ ما دامَ صاحِبُها هو نَفسهُ الذي اقترحَ التَّعاملَ مع العملِ الأدبيِّ بوصفِهِ «عَمَلاً مَفتوحًا». لكنّي أودُّ أن أَلفِتَ نظرَ القُرّاءِ والنُّقّادِ إلى نقطةٍ مهمَّة: إذا كانَ «احتراقُ المكتبة» هو الثِّيمةَ الأساسيَّةَ لروايةِ اسم الوَردَة، فإنّ رِوايَةَ الشُّعلَة الخَفِيَّة لِلمَلِكَةِ لُوانا تَدورُ حولَ «انفِجار الموسوعة»، وتبعاتِهِ في زمنِ ما بعدَ الحَداثةِ، وخشيةِ عدمِ القدرةِ على استردادِها بموسوعةٍ مِثلِها. «فَهِم غوليالمو أنَّه لن يُمكنَنا أن نُطفئَ الحريقَ بيَدَيْنا وقرَّرَ أن يُنقِذَ الكتبَ بالكتب»3. وكذلكَ يَعرِضُ أُمبرتو إيكو ها هنا كاملَ قُدراتِهِ وبلاغتِهِ في الوصفِ داخل كينونةِ الرّاوي، لا خارجه كما اعتادَ قُرّاؤُهُ. سنرى هنا كيف تتشكَّلُ الذِّكرياتُ في أذهانِنا وتختفي فتتبدَّدُ ثُمَّ نستعيدُها بوساطةِ دلالةٍ ما، مُستعينِينَ بالعقلِ والتفكُّرِ والاستنتاج. وسنرى كيف يندمجُ ما قرأناهُ وسَمِعْناهُ ورأيناهُ بما عِشناهُ وحَلمنا بِهِ وتذكَّرْناهُ. سنرى أثَرَ الصوتِ والرَّائحةِ والنَّكهات على الذَّاكِرة. وسنرى أخيرًا كيف يتولّى الحبُّ مُهمَّةَ خَلْقِنا وتكوينِنا ليُرْجِعَنا إليهِ. أليسَ أُمبرتو إيكو هو مَن قالَ: «الذّاكِرَةُ هيَ الرُّوح»؟

بيزنسون، فرنسا 19/02/2019ـ

ـ           1 أُمبرتو إيكو، أن نقول الشَّيء نفسه تقريبًا، ترجمة د.أحمد الصُّمعي، المنظَّمة العربيَّة للتَّرجمة، بيروت 2012، ص 453. السواد للدَّاعي.

ـ            2 حسن عثمان، مقدّمة الكوميديا الإلهيّة، لدانتي أليجييري وترجمة حسن عثمان، دار المعارف، القاهرة 1955، ص 68. السواد للدَّاعي.

ـ            3 أُمبرتو إيكو، اسم الوَردَة، ترجمة د. أحمد الصُّمعي، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت 2016، ص 555. السواد للدَّاعي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم