محمّد فتيلينه *

     لم يُذكر التاريخ إلا سردا، حتى اختلط النص التاريخي لدى الناس بالنص السردي، وبين هذا وذاك وثّقت الرواية ملامح الناس وأحداثهم وهواجسهم. لم تكن الرواية أول بروزها إلا نبشا في أحداث تاريخية، بدءاً من جلجامش إلى الفراعنة مرورا بحكايات العرب ومغازيهم وصولا إلى طواحين ديلامالشا، وهي الحكاية التي انطلقت منها شرارة الرواية الأوربية إلى العالم.

    تعود بنا جائحة اليوم "كورونا" إلى النصوص الروائية الأيقونية، التي وثقت للأوبئة راسمة في صفحاتها هموم الناس وردود أفعالهم في أثناء تفشي المرض وتتابع وتيرة عدواه. تفاوتت طرق تناول تلك الأوبئة، من الطاعون إلى الكوليرا وصولا إلى "ملحمة الحرافيش"، إذ استقى ألبير كامو من شوارع وهران "الخلفية" صور الجرذان الضخمة وهي تنفث سمومها في المجاري وعلى الجدران، بينما التقط ماركيز من الكوليرا تآلفا غريبا بين القلوب والأجساد، رسم به عنوانا لنصه ووثّق علاقة الحب الغريبة في زمن الوباء، وإن كان نص ماركيز ينحو بالقارئ إلى بواطن النفس لا إلى صور الكوليرا الوبائية.

   لا شك أن تلك النصوص وثّقت تجارب فريدة للقرن العشرين، تشكلت جماليتها وفرادتها من خلال متانة السرد ووضوح الحبكة ودقة الخطاب، لكن نعتقد أن رواية نجيب محفوظ قد تكون هي الأقرب إلينا بحكم مشتركات العالم العربي؛ من حيث التاريخ والهوية واللسان عبر التراكم التاريخي والحضاري المحفور في المشرق لقرون من الزمن، وبالتالي فإن المعاناة والشعور بالألم يكادان يكونان ذاتهما.

  كعادة محفوظ في كتاباته الروائية، تبدأ الملحمة بمشهد مدهشٍ وتنتهي كذلك بمشهد أكثر دهشة. كانت الحكاية الأولى من الملحمة، هي نواة التأثير التي اعتمدها نجيب في رسم تأثير الوباء، وفي نهاية الحكاية، التي عنوانها "عاشور الناجي" يبرز الوباء كموضوع طاغٍ من خلال العديد من العناصر التي شكّلت أهمية هذه الموضوعاتية، نذكر منها على الاجمال ما يلي:

الخوف:

  خوف الحرافيش (وهم عموم الناس من الطبقات الدنيا في المجتمع مثلما تم وصفهم في عهد المماليك) من تفشي الوباء، ورؤيتهم للأكفان وهي تمر من زقاق إلى آخر داخل الحارة. بقاء أغلب الفتوات (وهم رجال أقوياء يكسبون عيشهم من السطوة ومن رقاب الناس) داخل الحارة، جريا على نصائح رجال الدّين المدفوعين في الغالب من سلطة ما.

العزلة:

 انزواء عاشور (الفتوة المتسامح وابن التكية الذي تربى في زاوية مولاه الشيخ عرفة) بعد أن تهادى إليه هاتف مولاه في الرؤيا، يدفعه إلى الخروج إلى الخلاء، قبل أن تحلّ الكارثة به وبأهله. يستجيب للنداء اللدني ويفر مع ابنه الصغير (شمس الدين، وربما يشير الاسم إلى بقاء بصيص الأمل في الحياة).

تقتل الشوطة (الطاعون) خلال أشهر معدودة كل أهالي الحارة، وبعد الشوق إليها يأتي الأمر بالعودة لعاشور فتوة الرحمة ومحب الحرافيش إلى الحارة المتشوق إليها.  يفجع عاشور بموت أبنائه الكبار (هبة الله، رزق الله، رحمة الله وأمهما زينب)، بينما المفاجأة الأخرى خلو الحارة من ساكنتها. لا يجد مخرجا لتستمر حياته إلا بالسكن في بيت أشهر مُلاّك الحارة، ومع الزمن عُرف الرجل بسيد الحارة، وتوافد الحرافيش إليها من كل مكان، تحت عين درويش الذي تربى مع عاشور الناجي في بيت الشيخ عرفة كأخوين، والوحيد الذي نجا من الشوطة، ولكن كان لكل منهما طريقة في الحياة. اختار عاشور التكية وفتح درويش خمارة.

 الاستسلام:

تمثل ما بعد الشوطة (الطاعون) المرحلة التي عاش فيها الحرافيش (البسطاء والمطحونين) في مدينة فاضلة يسودها عدل فتوتهم المتسامح، الذي يفرق عائد جهدهم بينهم بالتساوي، وينفق من المال (الذي وجده في البيت المهجور) عليهم ما جعل الجميع سعداء بيومياتهم، وراضون بحالهم.

الخلاص:

   يتبدى الوباء مُخلّصاً لأولئك البسطاء، في كنف قوة تحميهم، ملتمسين من الغيب قوة يستندون إليها، ناشدين من القدرة الإلهية رعايتهم، متسلحين بدعوات يبوحون بها همسا وهم على أبواب التكيات (الزوايا وكتاتيب القرآن) والبوّابات الخضراء، المُفضية إلى "مسجد سيدنا الحسين" غير البعيد عن تطلعاتهم وعن ديارهم وعن آمالهم في الخلاص.

 كأنّ السماء تدخلت بقدرتها العجيبة في لحظات الجور والشطط لإنصاف الضعفاء، وبعثت لعنتها من خلال من نجا من الشوطة "عاشور الناجي" لتُسكت صوت الجبابرة الظالمين، ومن خلال نبّوت "الخلاص" تستكين "الحارة" إلى فترة من الرحمة ورغد العيش ودعة يتقّلب الحرافيش وأبناؤهم فيها خيرا ودعة وسكونا إلى حين من الدّهر.

النجاة:

لم يكن اختيار محفوظ لاسم عاشور اعتباطيا، ولا عفويا، فهذه الشخصية "المفهومية" ميّزها خالقها (خالق الشخصية) بكونها تستقي من عاشوراء المعاناة والبطولة والتضحية، ورغم أنها شخصية غريبة عن الحارة إذ لا يُعرف لها أبا أو أما، لكن التكية ودرب "الحسين" أسبغ عليها هوية جديدة، ساهمت في تخطّي اللعنات والنجاة من الوباء والخلاص من "نبوت" بقية الفتوات، وأودع الله فيها رحمته ورأفتها، استجابة إلى نداء الطيبين من الحرافيش وأصحاب الكرامات من أحفاد النبي وبنيه، ممن ساهم في رعايتها على بوابة التكية، ينتهي المشهد في الحكاية الأولى بصراخ "عاشور" وهو يتجرع المؤامرة-التي حاكها درويش، سيد الفتوات الظلمة-بعد عودته من المقطّم، وهي الصورة التي بدأت بها الحكاية، حينما كان "عاشور" في المهد يصرخ على بوابة الجامع غير بعيد عن بركات "الحسين".

* كاتب وروائيّ جزائريّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم