لونيس بن علي

يُفترض بأنّ صوت الروائي هو الصوت المنبوذ في الرواية، لذا يكون حضوره شبحيا، دون أن يترك علامات واضحة عن وُجوده. وإذا تحدّثتُ عن الصوت فأنا أقصد أيضا الموقف سواء أكان أخلاقيا أو سياسياً، فلا أفصل بينهما من شدّة ارتباطهما العضوي.

بات الرهان اليوم، بالنسبة للرواية هو كيف يُمكن إخفاء صوت/موقف الروائي، بحيث لا يطغى، ولا يتحوّل إلى عائق أمام انتشار الأصوات المتعددة فيها؟ وكيف يُمكن إقناع القارئ بعدم السقوط في الأحكام الأخلاقية المتسرعة في الحكم على مواقف داخل الرواية؟

في سياق تاريخي، كان ضمور صوت الروائي هو بمثابة ضعف فني، وذهب البعض الآخر إلى اعتباره تهرّبا للروائي من مسؤولياته الأخلاقية، خاصة إذا تعلق الأمر بالموضوعات الملغمة اجتماعيا، كالحديث عن العلاقات الجنسية المشبوهة، سب الذات الإلهية، التشكيك في الأديان، الموقف السياسي الصريح من السلطة، وهلم جرا.

أستحضر اللحظة ردود أفعال القراء الفرنسيين من رواية مادام بوفاري لفلوبير؛ حيث أنهم انزعجوا من الروائي الذي ظل محايداً طيلة الرواية، فلم يصدر منه موقفا يدين فيه هذه السيدة المنحرفة. فالحياد، في نظرهم، هو موقف سلبي، لأنّ على الروائي أن يكون حاسماً في إدانة الشرّ الاجتماعي والأخلاقي. أكيد أنّ الكثيرين سمعوا برد فلوبير، الذي صاح عاليا: بوفاري هي أنا!

قصة مثل هذه تُبرز تأثير التلقي في تحديد موقع الروائي داخل روايته، خاصة إذا كانت الموضوعات تمسّ الطابوهات الأخلاقية والاجتماعية، وكأنّ الكتابة الروائية معنية بفعل الإدانة؛ والذي يدين هنا هو الروائي بوصفه حارسا للقيم! وهل صحيح أن وظيفة الروائي هي حراسة القيم، والدفاع عنها؟

هناك فكرة مهمة طرحها ميلان كونديرا حول (أخلاقية الرواية)، فما هي أخلاق الرواية؟ أخلاقها الوحيدة، يقول كونديرا هي تعليق الحكم الأخلاقي، وتأجيله إلى ما بعد الرواية، فليس هناك حماقة ولا بذاءة أكبر من هذه الأخلاقية التي يمكن أن تتجسد في الروائي في شكل استعداد محموم لإصدار الحكم الأخلاقي، وفي المقابل بالنسبة للقارئ الذي قد يقرأ بعين مستعارة من رجل الأخلاق القابع في ظلمات معبده، يوزّع صكوك الغفران على الشخصيات المتخيلة، وقد يدين الروائي بجرح مشاعر القراء، مثلما حدث بالنسبة للروائي المصري أحمد ناجي بسبب روايته ابتكار الحياة.

في رواية (طائر الليل البذيء) للروائي التشيلي خوسيه دونوسو (1924 -1996) مشهد روائي في غاية الأهمية، يصف للقارئ مجموعة من التماثيل التي تجسد قديسين وقد حرص السارد على وصف تشوهاتها.

"تقدمن يصرخن مسرورات بين تماثيل للقديس فرانسيس من دون رأسه، وأخرى للقديس جبريل من أصبعه المرفوعة، وأخرى للقديس أنطونيو دي بادوا مبتورة الساقين او مقطوعة اليدين. تماثيل لعذراء الكارمن وعذراء المعونة الدائمة... وتماثيل الطفل يسوع براغ من دون تاج رأسه ولا كرة في يده... قديسون تحللت قسمات وجوههم ... ملائكة بلا اجنحة، قديسون بلا هوية، مقطوعون، بلا أطراف، من جميع الاحجام، قطع انكمش حجمها من أثر السنين وعوامل الطقس، وراح الحمام يذرق عليها..."

لنتأمل هذا المقطع الطويل، من يتحدث هنا؟ إنه السارد الذي وصف لنا مقبرة تعج بتماثيل القديسين والملائكة. فنحن إذن امام فضاء مقدس مليء بكائنات تنتمي إلى عالم السماء؛ ففي التقاليد المسيحية يمثل التمثال تجسيدا للكائنات الروحانية. هل أصدر السارد موقفا؟ مبدئيا كان يصف: فقد وصَف لنا تماثيل تجسّد كائنات مقدسة وقد تعرضت للتشويه، تمثال بلا رأس، وآخر فقد أصبعه، وأخر تحول إلى مسخ، وأغلبها ذرقت عليها الطيور. المشهد بأكمله كان تدنيسا لمجسمات تعبر عن المقدسات، لكن دون أن نقرأ موقفا صريحا من عملية التدنيس.

غير أنّ قراءة أعمق لهذا المشهد الوصفي، يسمح للقارئ بإدراك وجود خطاب آخر، متواري خلف شبكة العلامات الوصفية التي بثها السارد في نصه، أتحدّث عن موقف السارد من الدين. لكن السؤال المطروح: لمن هو ذلك الخطاب المُضمر؟ هل نرجعه بسهولة إلى موقف الروائي؟ أم أنّه ينتمي إلى لاشعور الرواية؟

إننا هنا أمام علاقة معقدة بين فن الرواية والمقدس، أي بين ما يمكن ان ينتمي من وجهة نظر قارئ أخلاقي إلى حقل المدنسات، بحكم أنّ الرواية لم تظهر إلا لتعبّر في لحظتها الأوروبية عن عالم هجره الإله بتعبير كونديرا دائماً. هذه هي الوظيفة الطبيعية للرواية أن تنتهك المقدّس بمجرد الحديث عنه، وليس بالضرورة من خلال تشويهه، فاستكشاف تاريخ المقدس نفسه يعني أن نجعلَه دنيويا، أي أن ندنسه. لا يبقى الشيء مقدسا طالما تحول إلى موضوع للخطاب البشري.

حدث الأمر نفسه مع رواية كمال داود (ميرسو تحقيق مضاد)، فموقف هارون من جاره المتدين الذي يتلو القرآن ليلا بصوت مرتفع، أو موقفه من اللغة العربية قد فجّر هيجانا خطابيا عنيفا ضده بلغ درجة إصدار فتوى بقتله. سأتحدث عن بعض القراء لأنّ الجحافل الأخرى التي انبرت للتهجم عليه لم تقرأ الرواية بل اكتفت بقراءة ما قيل عن الرواية. (قيل أنّ الذي طعن نجيب محفوظ بسبب روايته أولاد حارتنا لم يكن يقرأ ولا يكتب! واليوم ازداد عدد هؤلاء الذين يطعنون بشكل مخيف) فهل هارون هو كمال داود؟ هو سؤال بات كلاسيكيا في النقد السردي، لكنه أيضا ما زال مهما، طالما أنّ القراءة مازالت ترفض محو الحدود بين الروائي وروايته، وهذه معضلة حقيقية.

نجاح روائي، لاسيما في سياقنا الثقافي، مرهون بموقفه من الدين ومن الجسد، وليس بما يبدعه من أعمال إبداعية عميقة. لذا لم يُخطئ كونديرا لما قال بأنّ التدنيس الروائي هو أسوأ ما يُمكن أن يقع للمقدسات. لكن أسوأ ما يمكن ان يقع للرواية أن تخطئ زمن تلقيها، فتجد نفسها وسط قراء مشبعين بالثقافة الطهرانية، يخافون على مشاعرهم الأخلاقية.

  • ناقد وروائيّ جزائريّ.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم