لجينة نبهان

"أنا الذي كنت عدة أشخاص بلا طائل، أريد أن أكون شخصاً واحداً، أنا نفسي". بورخيس

ربما يكفي أن نقرأ هذا التصدير الذي بدأ به عبدالله ناجي روايته منبوذ الجبل، كي نستدل أنها رواية البحث عن الذات.

لا تشعر وأنت بصدد قراءتها بأنك تسعى وراء الحدث، تطوي السطور مليئا بالفضول لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور، رغم ما تنطوي عليه من تشويق و رغم أهمية المسارات التي أخذنا إليها الكاتب.

إن طريقة عرض الأحداث بلغة خاصة غنية بالتحليل و الأفكار والمشاعر واعتماده المنولوج الداخلي في مرات كثيرة جعلت للغة دورا إضافيا حين فعلت فعل المكابح لصالح جدوى الوصول مشبعين بالحدث متداخلين معه. نكاد نشم رائحة شخصياته ونسمع أصواتهم.

أخذنا الكاتب عبر روايته إلى علاقته بالأنثى والحب، كأحد المسارات. أخذنا إليه بهذا اليقين: "إن رائحة الأنثى باب يفضي بنا إلى الجنة "وهو الباحث عن ذاته.. وعبر أي طريق إن لم يكن بالحب يصلها!

الجنة التي يدخلها بطل الرواية محباً ويغادرها محباً حين يخسر الحب بمصادفة قدرية ما.. يخسر وجود الحبيب في أيامه، محتفظاً فيه بطريقة ما في وجدانه، يخسر الحبيب ولا يخسر الحب لتبقى أنثاه في سموها وقد أباح لها سلفاً في قلبه وفكره ما أباحه لنفسه.

***

أحمد بن يحيى الحداد بطل الرواية هذا الإنسان الرقيق الشاعر بالفطرة و المائل إلى العزلة حتى وسط الضجيج وقد تعلم أن يجد المسارب التي يهرب عبرها إلى روحه، العاشق للكتب و الباحث عن ذاته في كل ما يدور حوله.

***

"في تلك الليلة وعلى ذلك السرير استطعت أن أنفصل عن جسدي و أتعرف على رائحته ومنذ التقطت خيط الرائحة انطلق أنفي يتتبعها في أنحاء الجسد، رائحة كفي صدري أعلى إبطي و كل ما استطاع الوصول إليه هذا المنقب عن آثار ذاتي المطمورة في تراب الروح..

الرائحة نافذة الروح منها تطل على حديقة كونية محتشدة بالأرواح ذات الروائح المختلفة والمتنوعة وهي كذلك باب يفضي إلى الذات البشرية".

***

إلى الجانب الوجداني و بموازاته بل متداخلاً معه حيث لا مجال للفصل، تناولت الرواية قضية هامة حين تحتوي العائلة الواحدة على أخوة من جنسيات مختلفة لذات الأم والأب، أحمد اليمني مع أخوته السعوديين! مفارقة تتكرر في عائلات كثيرة ربما، وما لها من ارتداداتها التي حفرت عميقا في تلك الأسرة وتركت شرخا واضحا، هذا عدا عن ما لهذا الأمر من أثر يخيم على حياته كلها لجهة المركز الاجتماعي والجانب الوظيفي له ولكل من في وضعه.

***

"القراءة ركض بأقدام الروح، إيغال داخل غابات الأفهام و إبحار في موج الأفكار".

نعم لقد سقطت السماء ذات مرة على رأسي وكادت تودي بي إلى الموت أو الجنون، وذلك حين أمسك ابراهيم بالخيط و شده بقوة وقال لي: لن يسقط من هذا الخيط سوى وهمك، وكل من حاول سحب حقيقته بالقوة ذاتها ستسقط أوهامه على أم رأسه و ربما ستفلقه ألف فلقة "

هكذا كان يسقط أحمد بن يحيى الحداد أوهامه في رحلته إلى الجوهر.

***

"لا شيء صحيح وكل شيء مباح" وثلاث خطوط حمراء تحت العبارة التي خطتها أصابع أحمد، كأنما كي يوحي لصديقه بندر بسؤاله: هل تعني أن الشعب كله أو أغلبه يجب أن يؤمن بهذه العبارة"؟

ليصل الكاتب إلى مرامه في إيصال فكرته مجيباً بلسان أحمد: هذه العبارة مختصة بصاحب الأمر والمقربين منه فقط أما الأتباع فسيكون الإيمان الذي سيبثه صاحب الأمر بطرائقه المختلفة هو ما سيقودهم إلى جنته الموعودة!

هكذا مرر عبدالله ناجي فكرته بذكاء عبر الحوار الذي أداره بين إبراهيم وبندر وأحمد حول شخصية حسن الصباح في  رواية آلموت للكاتب السلوفيني فلاديمير بارتول.

***

حديث الكاتب عن مكة الحبيبة الراسخة بكل وجوهها التي قد لا يعرفها كثيرون. مكة بوجهها الديني الأكثر عتاقة، مكة المتصوفة بمشايخها ودراويشها.. مكة المثقفة التي زخرت بثلة من أهم المفكرين من أمثال أحمد قنديل و حمزة شحاتة و زمخشري و غيرهم كثيرون.. مكة التي خرج منها محمد النبي.. ومكة مدينة العشق ومواعيد الغرام، والتي يتحول الليل في بعض شوارعها أو أسواقها إلى محطات لقاء، ومن ثم إلى سهرات ينطلق العشاق منها بمعشوقاتهم إلى جدة لقضاء ليلة غرامية على شاطئ البحر أو في شقة مفروشة..

قال الكاتب ما قاله على لسان بطله بواقعيته وكحقيقة تعيشها كل المدن فلماذا تكون مكته استثناء والناس في جوهرهم و نوازعهم يتشابهون.. قالها طارحاً رؤيته لتلك المسألة الحساسة جدا، من خلال حوار أداره بين أحمد وبندر حين قال بندر ضاحكاً: يحتاج الناس إلى التغيير.. رد أحمد بخبث: إنهم لا يحتاجون إلى التغيير، لكنهم يحبونه.

 سأقول لك شيئاً، النفس البشرية لا حدود لرغباتها وهذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان، كما قال بومارشيه (أن يشرب وهو غير عطشان وأن يمارس الحب في جميع المواسم هذا وحده ما يميز النوع الإنساني عن سائر الحيوان).

***

منبوذ الجبل، رواية تشعر و أنت تقرأها بأنك تعيشها بكل تفاصيلها و أنها تبادلك الدور تقرأها لتعود فتقرأك وتستمع إليها بانتشاء، تحاورك أفكارها وتتبادل معها المشاعر في كل لحظة بلغتها الطرية الرطبة التي تستطيع لمسها و تحسسها لتكون جزءا منها.. رحلة إلى الداخل و الذات حيث الخارج ليس سوى صور و نسخ مزدحمة عن الأصل الموجود في الداخل.. بدأت في صفحاتها الأولى بعبارة الطريق إلى الحقيقة يكون عبر المعرفة لتنتهي معها بفكرة أن المعرفة هي المتعة بحد ذاتها و الحقيقة الأخيرة قد تكون وهم

أتفق معك جدا عبدالله ناجي "أقوى أنواع الكتابة تلك التي تكون في حالة هروب.. إنك تواصل الهرب و لكنك وفي منعطف ما ستواجهها أمامك حينها ستنفجر.. "وإن كنت قد تمكنت من إحراق قصائدك المكتوبة فلن يكون بإمكانك إحراق القصائد التي ما تزال تسبح في بحيرة روحك، إنها محمية بماء الروح و لن يكون بمقدور نيرانك الوصول إليها..

الكتابة خلود و موت في آن..

*شاعرة وكاتبة سورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم