هيثم حسين

يرى الكثير من النقاد وحتى القراء العاديون أن الرواية ليس عليها فقط أن تروي حكاية ما، كما أنه لا يمكن حصرها في طريقة أو أسلوب السرد، بل تكمن أهمية أي رواية عندهم في القضايا التي تثيرها، سواء أكانت اجتماعية أم فكرية أو جمالية أم سياسية وغيرها مما يمكن للنص الروائي الخوض فيه بطلاقة كجنس أدبي جامع، لكن قد تثقل القضايا المطروحة كاهل الروائيين خاصة إن تحولت إلى هاجس.

هل يفترض بالرواية أن تتبنّى القضايا التي يعتقد أصحابها أنّها عادلة وتدافع عنها وكأنّها تحارب من أجل الحقّ والحقيقة؟ كيف يمكن للرواية أن تحاصر كاتبها وقارئها في حدود ما يصنّفه بعضهم بالفضيلة، وتبتعد عن إثارة الشبهات بمقاربة ما يوصف بالرذائل أو الموبقات؟ هل يمكن للرواية استعراض قضية ما، سواء كانت فضيلة أو رذيلة، ممدوحة أو مذمومة؟ هل يستميل الروائيّون قرّاءهم للتعاطف مع أفكارهم وقضاياهم عبر نصب فخاخ الحكايات في طريقهم ودفعهم إلى شراكها؟

وهل تشجّع الرواية التي تتحدّث عمّا يمكن وصفه بالشذوذ على ممارسة هذا النوع أم أنّها تستعرضه كقضية حياتية وإنسانية بعيدا عن أيّ حكم؟ وهل حين تصف الخراب الذي تخلّفه الحروب تثني عليه أو تلعنه أم أنّها تقدّمه في سياقات الفعل وتأثيراته وتداعياته على البشر في مرحلة زمنية ما من مراحل حياتهم؟ وإلى أيّ حدّ يجب على الروائي أن يقصي نفسه عن التزامه بما يؤمن به؟ وهل يخدم ذلك الرواية أم قد يسيء إليها؟

المثقل بالقضايا

لا يخفى أنّ الصفات والتوصيفات تتبدّى نسبية غالبا، وتختلف من امرئ إلى آخر، ومن ثقافة لأخرى، بحيث أن الممدوح هنا قد يكون ملعونا هناك، أو العكس. وبهذا يتحوّل التصنيف في خانات بعينها إلى تحجيم للأعمال الروائيّة، ووقفها على صراع الخير والشرّ، وكأنّها تنوب مناب أصحاب القضايا في المحاماة عنهم وعمّا يؤمنون به.

تدافع الرواية عن القضايا التي يتبنّاها الروائيّون ويوقفون أعمالهم للمرافعة عنها وتصديرها والاستماتة في تقديرها حقّ قدرها المفترض من قبلهم، يمنحونها التقديس الذي يجدونه واجبا، في حين أن آخرين ممّن لا يؤمنون بتلك القضايا قد يجدونها موجّهة، تمضي تحت قناع الالتزام، لكنّها لا ترتقي إلى مرتبة الإبداع والابتكار، باعتبارها تبدو كمرافعة روائية من قبل أصحابها وتوزيع للأفكار التي يدافعون عنها بين طيّات حكايات ملفّقة تخلو من التشويق، وترتهن للتسويق.

الرواية تحظى بأهمية كبيرة من خلال قدرتها على التأثير واستقطاب قراء كثيرين يفضّلون الحكايات على الأفكار الجامدة

يمكن للحكايات أن توضع في خانات بعينها، ويمكن لكلّ قارئ أن يسبغ عليها الصفة التي يجدها أنسب لها من وجهة نظره، وبحسب الزاوية التي ينظر من خلالها، أو يحكم عبرها، ما يبقيها مطلقة في فراغ التكهّن أو التلبيس والتحميل..

ولا يفترض بالأحكام الصادرة على الأعمال الأدبية أن تسلب منها روح الإبداع، ويتمّ اتّهامها بالانتصار لهذه القضية أو تلك التي قد لا تتقاطع مع ما يؤمن به أو يدافع عنه قارئ أو ناقد ما، فتتحوّل من قبله إلى أداة دعائية للترويج، وتوضع في خانة التوجيه الذي يفقدها جمالياتها..

كما لا يفترض بالروائي أن ينساق وراء الإيهام بأنّه مثقل بالقضايا التي يلزم نفسه بالدفاع عنها، وكأنّ الرواية حكر على القضايا التي يراها مهمّة وعادلة وكبيرة، من دون الاكتراث لقدرتها على تضخيم القضايا، وإضفاء الأهمية عليها، من خلال تسليط الأضواء ونسج الحكايات المشوقة عنها، بحيث يتخفّف من المباشرة ويعمل على تصدير الفكرة في سياقات مجمّلة بعيدة عن التلقين أو التنفير.

سياقات مجملة

الأميركي جيمس بالدوين (1924 – 1987)، الذي عرف بمواقفه المناهضة للتمييز العنصري والجنسي والتفاوت الطبقي، يحرض لدى القراء الرغبة في البحث عن إجابات لأسئلته التي يثيرها، ومنها ما الذي يحدث عندما لا يكون بمقدور امرئ ألا يحب أحدا؟ وماذا يحدث لو كان خائفا من نفسه، وخوفه ذاك يمنعه من الوقوع في الحب، وما إذا كان يغدو متوحشا أو خطيرا إلى درجة يجب معها إبعاد الناس عنه؟

يرحل في روايته “غرفة جيوفاني” إلى باريس في فترة الخمسينات من القرن المنصرم، حيث كانت تعجّ بالمغتربين والعنف الخفيّ، فيزورها ديفيد الأميركي ليقف عاجزا عن قمع نوازعه رغم معرفته بخطورتها وآثارها القاتلة، وبعد وقوعه في الحب وتعرّفه لاحقا إلى عامل حانة إيطاليّ، جيوڤاني، تتغيّر حياته. وهنا قد توصف الرواية بأنّها تنزلق لخانة الرذيلة، أو تجميل الرذيلة والدفاع عنها، في الوقت الذي تكاشف وتستعرض من دون تأثيم أو تجريم.

عندما تتحول الرواية إلى موقف نضالي
عندما تتحول الرواية إلى موقف نضالي

يسلّم الراوي بعجزه أمام اختيارات الحياة، حين يقول إن الحياة تمنح هذه العلاقات والروابط وتأخذها مرة ثانية، وتكمن المشقة الكبرى في أن تقول للحياة: نعم. ويصرح أنه عندما يبحث المرء عن اللحظات الحاسمة والمصيرية في حياته، تلك اللحظات التي تغير الزمن الذي سيأتي بعدها، سيجد نفسه يقتحم، بألم عظيم، متاهة من الإشارات المزيفة والأبواب التي تصطفق فجأة. ويستعيد لقطات من حياته السابقة، وما يصفه بتلك الرحلة التي تواجهه في انعكاسه الذي يراه على زجاج النافذة كلما هبط الليل.

يقرر راوي بالدوين أن يعيش حياته كما يشاء، وألا يفسح المجال لأي شيء في العالم أن يشعره بالخوف أو الخجل، وقد نجح بامتياز ألا يعير العالم أي انتباه، وألا ينظر إلى نفسه، وأن يبقى في الحقيقة يراوح مكانه. أراد أن يجد نفسه، وظن أنه في أعماق قلبه يعرف تماما ما كان بصدد فعله عندما ركب الباخرة متجها إلى فرنسا. ويتناول واقع اختلاف نظرة المرء للنعيم والجحيم، وكيف أن لكل امرئ نظرته الخاصة به حيالهما، وأن الحياة تمنح المرء خيارات معينة، وربما أن الحياة نفسها تتطلب قوة للتذكر، وتتطلب قوة من نوع آخر للنسيان، وتقتضي بطولة حقيقية لفعل كليهما. وينوه إلى أن هناك أناسا يستدعون النشوة عن طريق التألم المستمر لموت براءتهم، وآخرين ينسون النشوة وينكرون الألم ويكرهون البراءة، والعالم منقسم غالبا بين المجانين الذين يتذكرون والمجانين الذين ينسون، وأما الأبطال فهم نادرون.

تحظى الرواية بأهمية كبيرة من خلال قدرتها على التأثير واستقطاب قرّاء كثيرين يفضّلون الحكايات على الأفكار الجامدة المجرّدة أو المباشرة، يتماهون مع شخصياتها، ويتفاعلون مع القضايا التي تطرحها، سواء كان من باب الانتصار لها أو انتقادها ومناهضتها، ما يبقيها في إطار التأثير المشتهى وتداعياته، بحيث تدفع القارئ إلى اتّخاذ موقف ما حيال قضية ما، لا أن يكتفي بالقراءة ويغلق الرواية وينسى ما ترمي إليه أو تستبطنه وتبثّه من رسائل وأفكار.

لا يمكن حصر الرواية بخانة محدّدة وكأنّها فعل موجّه، ولا يمكن تقييدها بأنّها تنتصر للفضيلة أو تنحدر إلى مستنقع الرذيلة، وكأنّ الحياة عبارة عن لونين فقط، أو يتمّ تعديم الألوان الأخرى التي تزيّن حكايات الحياة ومحطات الرحيل والتغيير المتجدّدة التي تثرى بالاكتشاف والتجريب والتعدّد والاختلاف.

عن صحيفة العرب اللندنية

https://alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AE%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B6%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B0%D9%8A%D9%84%D8%A9?fbclid=IwAR2LWYxO_mTH1J1JjLO7E-P-17qLIs39ZoK7qVzyj9fL15mZZdALDrT98VU

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم