قرأ معظم كتاب الأدب والفن روايات أغاثا كريستي البوليسية، رجل المستقبل، رجل المستحيل، زهور، ماوراء الطبيعة وغيرها. فمثلا قال نجيب محفوظ: بدأت قراءاتي بقراءة الروايات البوليسية، وعبد الرحمن منيف كتب في كتابه "سيرة مدينة" أن روايات الجيب كانت خبزاً يوميا للكثيرين. في هذا التحقيق مبدعين كانت روايات الجيب بداية شغفهم بعالم القراءة. وهنا نسألهم، كيف أثّرت هذه القراءات في اختيارهم لمسار الكتابة؟

يرى الشاعر المصري مصطفى أبو مسلم رغم أن معظم أبناء جيله مواليد التسعينيات عاصر روايات الجيب عندما كادت تختفي من عالم الأدب نوعا ما. لكن لا يمكنه أن ينكر أن روايات مصرية للجييب الصادرة عن المؤسسة المصرية للنشر خلقت لرواية الجيب في الشارع المصري شكلا عصريا أثر في معظم طوائف الشباب على اختلاف ذائقاتهم.

وتابع: مازلت أتذكر صديقي أحمد الخياط والذي كان يتفاخر أمامنا دائما بجبل من روايات نبيل فاروق الذي يحتفظ به في غرفته. كان معجبا بشخصية أدهم صبري أو رجل المستحيل وبطولاته الخارقة، كان نبيل فاروق يصنع وجبة دسمة تشبع الكثير من هواة افلام الجاسوسية.

بعض سلاسل تلك الروايات حملت في معظمها قيمة البطل العربي المقاتل النبيل الذي يعرف كيف يتغلب على أعدائه ولا يخالف مبادئه فقط. وكنت كلما نظرت لاصدقائي ومدى تأثرهم بتلك الروايات، أدرك ما للكتابة من سحر إذا ما صابت النفس، وأمسك القلم باحثا عن معركتي

تجد هذا في أدهم صبري بطل سلسلة قصص المخابرات: رجل المستحيل ونور الدين بطل سلسلة الخيال العلمي:ملف المستقبل. ولكن كان لصاحب هاتين السلسلتين د.نبيل فاروق رواية تم نشرها على عدة أجزاء من خلال سلسلة كوكتيل ألفين، وكان لها تأثير أكبرعلى تجربتي في الكتابة وهي رواية "أرزاق". رغم شعوري أنها لم تأخد حقها من الانتشار. لكنها شكلت في ذهني شكلا جديدا عصريا لنموذج روايات نجيب محفوظ. تأريخ المجتمع سياسيا واجتماعيا بالتوازي مع قصص أبطال تختلف صراعاتهم النفسية والإنسانية وتتصاعد مع الزمن. تلك الرواية في حينها فجرت داخلي الرغبة في الكتابة وشعرت أني يوما ما سأؤرخ حقبة عالمي الصغير في رواية تشبهها.

واستطرد "في العقد الأخير شهد هذا النوع من الكتابة انحسارا شديدا، وذلك لعزوف القراء عنها واتجاههم إلى الروايات الطويلة التي تعتمد على الحبكة السينمائية. بإمكانك تقديم رواية استطيع وصفها بـ الفشار لاتسمن ولاتغني من جوع. فهي مجرد خلطة مكررة ومعلبة لاتقدم أي جديد كأفلام المقاولات، التي لاتتودد لعقل الجمهور بل لغرائزه، وهذا حال روايات الاكثر مبيعا الآن مع الأسف والتي ساهمت وتساهم في تسطيح الوعي الجمعي وتحويل الرواية العربية إلى مجرد مسلسل تركي ساذج".

لذة قرائية

لا تنكر الشاعرة التونسية الثريا رمضان أن روايات الجيب أثّرت عليها بشكل كبير إذ كانت تعيش مع الشخصيات في كل قصة وتحاول دائما التفكير في نهايات أخرى، خصوصا مع سلسلة عبير وزهور، وأضافت: "كنت أحبذ الروايات البوليسية كروايات أغاثا كريستي فإن عبير وزهور نمّت فيّ الجانب الوجداني في الخيال ومن ثم في الكتابة، ومن هنا بدأت مسيرتي التي كانت مجرّد خواطر ثم قصة بدأت بكتابتها في سن 18 سنة بعنوان (شهرزاد القرن 21) ولم أكملها حتى اليوم"

وتقول رمضان: لا أستطيع تذكر عناوين محددة بسبب طول المسافة الزمنية التي تفصلني عن تلك الفترة، لكنني مازلت حتى اليوم أستمتع بروايات أغاثا كريستي البوليسية وأذكر منها (قطار الشرق) مثلا. أسلوب التشويق الذي تستخدمه أغاثا كريتسي في كتاباتها يشدّني كثيرا لأنني أعتبره مهما في شد القارئ وهو أيضا الأسلوب الذي أحب استخدامه في كتاباتي. لا أعتقد أن أحدا منا لم يكبر مع هذه الروايات، روايات عبير وزهور والقصص البوليسية لأغاثا كريستي وغيرها كثير، فهي تجربة يمر بها كل من شغُف بالمطالعة، نمر بها في فترة نكون بحاجة فيها إلى البحث عن قصص تشبهنا خصوصا فترة المراهقة، حيث نتطلع دائما لقصص رومانسية تعبّر عن ذواتنا وتجاربنا المبتدئة في الحب.

أكد الروائي العراقي هيثم الشويلي أنه لايخفى على الجميع كيف أثرت روايات الجيب في جيل كان يتعطش للقراءة في زمن لم تتوافر في وقتها أي شيء من مغريات التكنولوجيا الحديثة كالقراءة الإلكترونية الحديثة أو ملفات pdf التي أصبحت تشبه إلى حد ما روايات الجيب السائدة في تلك الفترة.

وربما لصعوبة توفر الكتاب في الفترات السابقة أو بالخصوص لصعوبة الحصول على الكتاب إذ كان الكتاب محاصراً تماماً في فترة من فترات الحكم السائدة. فكانت روايات الجيب هي المتنفس الوحيد للقارئ العاشق للقراءة. أتذكر روايات عبير صغيرة الحجم. تلك الروايات الرومانسية المغرية للشاب المراهق الباحث عن قصص العشق والغرام، وكنا نستغرب من كمية الجرأة المطروحة في متن النصوص والدهشة التي تتملكنا في وقتها. أتذكر إني ذات مرة حين كان عمري أحد عشر عاماً دخلتُ إلى مكتبة بسيطة ورحتُ أتفحص مجموعة من الروايات ووقع ناظريّ على رواية وحيدة من سلسلة روايات روكامبول وكان عنوانها من مجموعة العناوين التي لم تصل للمكتبة سوى هذه الرواية اليتيمة. (روكامبول في السجن). وحين قرأتها تأثرت كثيراً بل وشدتني وجعلتني لا أفارق هذا العالم الساحر والمدهش. لكن الآن بعد ازدهار النشر وظهور العديد من الكتّاب بدأت تختفي تلك الروايات التي كانت رغم صغرها تحمل لذة قرائية لا توصف للقارئ.

تقول الشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال: منذ مراهقتي بدأت أقرأ روايات الجيب، كانت مغامرة جميلة أدخلتني إلى عالم القراءة، فقد وسعت خيالي كثيرا وكانت بدايتي في الكتابة لأني كنت في ذلك الوقت بعيدة عن عالم الكتابة، لكني كتبت محاولة تقليد هذه الروايات.

لا أذكر بالتحديد اسم رواية من هذه الروايات، لكني أذكر أنها كانت روايات بوليسية، وبالتحديد الألغاز البوليسية، كنت أقرأها بشوق لمعرفة الحل وانكشاف الجريمة، وأضافت:"الآن بعد مرور كل هذه السنوات، أعترف أنها كانت بدايتي للدخول في عالم القراءة والتعرف أكثر على الروايات العالمية الأخرى، صحيح أننا ابتعدنا الآن عنها قراءة وكتابة، لكنها ما زالت جزءا مهما من ثقافتنا ، لا أعرف كيف ذلك، لأن تأثيرها في لاوعينا، أكثر ما فعلته بنا هو تلك اللحظات التي سرقناها للذهاب بعيدا عن البيت أثناء القراءة. اللحظات السعيدة التي نما فيها خيالنا".

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم