ليست «فن الفقدان» الرواية الأولى التي تلفت نظر القارئ الفرنسي إلى قضية أبناء الحركيين وبناتهم. فمنذ صدور رواية «أبي هذا الحركي»، للصحافية الجزائرية الأصل دليلة كرشوش، ونحن نتابع سلسلة من الأفلام والشهادات والنصوص الأدبية التي تتوقف عند مأساة أولئك الآلاف من المجندين الجزائريين الذين قاتلوا، مرغمين أو عن قناعة، في صفوف الجيش الفرنسي في أثناء الحرب لطرد الاستعمار ضد جبهة التحرير الوطني. إن بلدهم يعتبرهم، حتى اليوم، خونة لا يستحقون العفو، رغم مرور أكثر من 40 عاماً على استقلال الجزائر عن فرنسا.

ومن المعروف أن الحركيين لقوا جزاء سنمار، فلا فرنسا كافأتهم على وقوفهم معها، وبذل دمائهم في سبيلها، ولا وطنهم الأم ترك لهم خط الرجعة؛ عاشوا منبوذين في معسكرات مقفلة، وكبر أبناؤهم فيها. واليوم، جاء دور الأحفاد الذين نالوا حصة طيبة من التعليم لكي ينبشوا الماضي القريب، ويطالبوا بحقهم في الاحترام والاعتبار، ما دام أنه لا ذنب لهم في مفارقات التاريخ.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

صدرت «فن الفقدان» في الموسم الأدبي الأخير، ولقيت رواجاً طيباً بعد حصول مؤلفتها أليس زنيتر (31 عاماً) على جائزة «غونكور» التي يمنحها طلبة الثانويات. وقد كان مقدراً للكاتبة أن تبقى بعيدة عن هذه القضية، فوالدتها فرنسية ووالدها من أصل جزائري، وليس هناك ما يغريها بالخوض في أسرار العائلة، لولا أن عبارات طرقت سمعها بأن جدها كان حركياً. ماذا يعني ذلك؟ سألت أباها، فلم تجد لديه سوى القليل مما يروي فضولها. لقد وجدت نفسها تصطدم بجدار الهوية وهي في الثلاثين؛ السن التي يخرج فيها المرء من فورة الصبا، ويبدأ بطرح الأسئلة الساخنة ومواجهة ما يحيط به.

تبدأ الرواية بشرح حالة نعيمة، الشخصية الرئيسية التي تعاني منذ بضع سنوات نوعاً جديداً من المحنة. تلك التي تترافق بشكل منهجي مع الاستيقاظ بمزاج عكر بعد ليلة شراب؛ إنها لا تشبه صداعاً في الرأس، أو حلقاً مريراً، أو معدة ملتوية. فهي عندما تفتح عينيها، تتبادر إلى ذهنها - على الفور - فكرة أنها لن تفلح في ما تريد. فما الذي تريده نعيمة، الشابة صاحبة صالة العرض الفني المولودة في أسرة حركية؟ كانت ذاهبة لتسلم صوراً لأحد مغني الاستقلال، حين اكتشفت أنها لا تعرف شيئاً عن الجزائر، ولا عن أبيها الذي وصل طفلاً، إلى مرسيليا، عام 1962. بل وجدت أنها، بالتبعية، لا تعرف الكثير عن نفسها، ولا عن ماضيها الذي اختطفه جدها وأبوها، حين قررا إسدال ستار من النسيان على حقيقة ما جرى. كأن الجد كان يهرب من صور أولئك الريفيين من رفاقه وأقاربه الذين جرى ذبحهم غداة حرب التحرير، بينما نجا هو ووصل إلى الضفة الشمالية من البحر.

ليس في لغة الرواية ما يعيق المضي في المطالعة. ولعل بساطتها في التعبير عن العنف هي سر وصولها إلى عقول طلبة الثانويات الذين صوتوا لمنحها الجائزة ذات القيمة المعنوية العالية. وبتلك اللغة الواضحة، تحاول سونيا زنيتر، الروائية المخرجة الشابة، أن تحفر في التربة المتراكمة فوق من تسميهم «منسيي التاريخ»، دون أن تحاول إطلاق صفات البطولة أو الخيانة أو الوفاء أو الجحود عليهم. كما أنها لا تتبنى الوقوف مع أو ضد. لقد كانوا هناك في لحظة مفصلية متأججة، قرويين بسطاء أميين يكسبون قوتهم من المهنة الوحيدة المتاحة لهم: التجنيد في الجيش الفرنسي، ذلك الجيش الذي خدم فيه قادة جبهة التحرير الوطني قبل أن يسلكوا طريق المقاومة المسلحة. ولعل هذه الصورة الشائعة تبقى قاصرة حين يفكر المرء بأن الانتماء للوطن لا يتطلب ثقافة عليا. فأن تكون حراً على أرضك، غير خاضع لمستعمر غريب يسلبك إياها ويهينك ويتركك خادماً لديه، حاجة غريزية.

لا تتهيب سونيا زنيتر الكتابة عن القضايا الإنسانية التي ما زالت موضع تعتيم والتباس. وسبق لها أن رفعت الصوت ضد العنصرية في روايتها «حتى في أحضاننا»، الرواية التي ترجمت إلى الإنجليزية، وصدرت بعنوان «Take This Man». وكانت قد بدأت النشر منذ أن كانت في السادسة عشرة، مع روايتها الأولى «اثنان ناقصاً واحد يساوي صفراً». وبعد تخرجها بشهادة مرموقة في التعليم، أقامت سنوات في هنغاريا كمدرسّة للغة الفرنسية، وكتبت عن التقلبات المؤلمة التي عرفها شعب تلك البلاد، قبل الشيوعية وبعدها، في رواية عنوانها «أحد قاتم». وبعد عودتها، عملت مؤلفة مع فرق مسرحية، وقامت بالتدريس في جامعة السوربون، قبل أن تصدر «فن الفقدان»، روايتها الرابعة التي تشكل إضافة قوية لمسيرة كاتبة توصف بالملتزمة. صفة تستعاد في المشهد الروائي الفرنسي، بعد سنوات من التجريب والحداثة والتركيز على الأنا العاشقة أو المتأزمة، والانصراف عن الهموم العامة. ولعل ما يمنح هذه الرواية أصالتها وقوتها هو أنها مستمدة من سيرة شبه ذاتية للمؤلفة التي استجوبت أباها وأقرباءها، واستمعت إلى حكايات كثير من الحركيين الذين صورتهم في فيلم أيضاً. لقد حارب جدها في الحرب العالمية الثانية ضمن صفوف الجيش الفرنسي، وشارك في معركة «مونتي كاسينو» على الأرض الإيطالية، ونال وساماً لشجاعته، لكن ذلك لا يشفع له بقاءه في الجيش بعد أن تحررت فرنسا، وبدأت حرب تحرير الجزائر، وهو يشاهد بعينيه تعذيب الجنرالات لنساء القرى التي هو منها.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

ليس من السهل المضي عميقاً في حوارات مع أناس يتملكهم الشعور بالخزي مما فعله آباءهم وأجدادهم. إن التبريرات تتراجع أمام الوقائع. لذلك يعتصم الجميع بالصمت لكي يتجنبوا الفضيحة. ولا بد أن الأمر كان شاقاً على كاتبة متخصصة في تدريس الأدب الفرنسي، قرأت عن عشرات المثقفين الفرنسيين الذين عارضوا سياسة بلدهم، ووقفوا مع حرية الجزائر، ثم تفتح عينيها على حقائق تعاون جدها مع جيش الاستعمار، ورفعه السلاح في وجه بني جلدته. إن سعي نعيمة، بطلة الرواية، لفهم السبب هو ذاته سعي سونيا، مؤلفة الكتاب الذي يتابع سيرة علي، الجد المتحدر من منطقة القبائل، ثم الابن حميد، وأخيراً الحفيدة نعيمة. ثلاث شخصيات عاشت كل منها عصراً مختلفاً وظروفاً متباينة، وتحمل نظرتها الخاصة للعالم. وثلاث مفارق تمر تحت عيني القارئ وهي تتلون بثقافة خليط من العربية والفرنسية، للرجل وللمرأة في كل منها موقعاً لا يشبه الآخر. ولأن الجد قد توفي، والأب لا يملك الكثير مما يساعدها به، فقد حاولت تقمص شخصية كل منهما والدخول إلى أعماقه. وكان الضوء الذي استهدت به عبارة لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي وجد نفسه ذات يوم محاصراً بمجموعة من شباب الضواحي الذين اتهموه بأنه يصادر منهم الكلام، ويعبر في مقابلاته التلفزيونية بالنيابة عنهم؛ لقد كتب يقول: «إن علم الاجتماع هو من الرياضات القتالية». لهذا فإن الكتابة بالنسبة لسونيا زنيتر هي نوع من المصارعة أو الملاكمة في مواجهة الحقائق.

هل تبدو أليس زنيتر طوباوية متطرفة وهي تبشر، على امتداد 500 صفحة، بنبذ الكراهية، والتغاضي عن جراح الماضي؟ ألا تأتي روايتها وكأنها واحدة من المناهج التربوية المقررة في زمن فرنسي يسعى للتصالح مع خطايا الأمس؟ سؤالان ليسا أكثر من وجهة نظر حول قناعات كاتبة جزائرية الأصل، ولدت لأب مسلم وأم كاثوليكية، تركا لها حرية التصرف، واعتناق ما تشاء من قناعات. إنها لا تخفي ابتعادها عن الدين، وتقول في أحد حواراتها الصحافية إن عقيدتها في الحياة تتركز على مبدأ العدالة، وإن ما يمنحها الرغبة في النضال هو تلك المتوازيات التي تحيط بنا: غني وفقير، أسود وأبيض، رجل وامرأة، عربي وفرنسي، وهي متوازيات تدفعها إلى خندق اليسار، رغم إدراكها لحقيقة أن هذا الانتماء بات يبعث على السخرية. أما نعيمة، بطلتها وقرينتها، فإن خاتمة الرواية تنبئنا بأنها لم تصل إلى أي مكان في اللحظة التي قررت فيها المؤلفة إنهاء نصها الطويل؛ إنها تتحرك، وما زالت تتقدم.

عن صحيفة الشرق الأوسط https://aawsat.com/home/article/1110056/سونيا-زنيتر-تمارس-الكتابة-كرياضة-قتالية

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم