قطعاً لن يفي السوريون يوماً حقّ تجربتهم في السجن الكبير الذي عاشوا فيه تحت اسم "الوطن"، هكذا تترسخ النظرة العامة لكل مشتغل بالأدب أو متلقٍ له، لكن بشكل خاص تبدو الروايات أو الأعمال الادبية التي يمكن وضعها تحت عنوان "أدب السجون"، والتي توثّق في جوهرها تجارب أصحابها الذين عاشوا السجن وتعرضوا لمصادرة الحرية لسنوات في معتقلات متعددة داخل المدن السورية، قليلة بالنسبة لأعداد الذين دخلوا وخرجوا من السجن، هؤلاء هم من حملوا إلى جانب قصصهم الذاتية قصص المفقودين في الظلام المنسي طيلة عقود، قصص الاعدامات الميدانية وأساليب القتل الذي تم استخدامه بمنهجية في سبيل بقاء السلطة الحاكمة مهما كلَّف الأمر. لم يكن السجن حالة فريدة عربية أو سورية على وجه الخصوص، وإنما الفريد هي حالات التعذيب التي فاقت في حقيقتها وأشكالها أكثر السجون وحشية في التاريخ، بل إنها قاربت أو تفوّقت بشكل أو بآخر على أساليب التعذيب التي كانت منتشرة في أوربا خلال القرون الوسطى. الكتابة عن السجن من خلال التجربة الشخصية تضع الكاتب أمام عدد من الخيارات، تبدو أولها في إذابة الجميع بالذات و صهر كل ما يتعلق بالسجن في نافذة الذاكرة الشخصية، أو يتم ذلك من خلال إذابة الشخص بالكل وبذلك يعلو الاحساس الجمعي ويتفوق خلال الطرح ضمن مسارات الحكاية، فالدوائر السردية تنطلق من قصة المعتقل في بنيتها الهرمية بلا تحديد نقطة الانطلاق وزمانها ومكانها الذي سرعان ما يتم اكتشافه لاحقاً، أيضاً الدوائر السردية هنا تمتد في داخل السجن وأسواره، وتحمل في صورتها صورة النقائض بين السجان والسجين، ثنائيات الحياة بين عالمين مختلفين كليَّاً يحمل سكان كلٍّ منهما تفصيلاً مشتركاً يقوم على التواجد المكاني لحظة الحدث وإن اختلفت ضفة الوقوف وميزاتها.

إطلالة على السجن:

كيف يكتب المبدع عن السجن وهو ما يزال يحمل في خلاياه فكرة الخوف من التواجد بين أربعة جدران؟ كيف تناول الكاتب السوري فترة اعتقاله وشهادته عن المجزرة وضحاياها الذين قضوا بقرار أمني في سجن تدمر مثلاً؟. فعل الكتابة غالباً ما يحدث عقب سنوات من خروج السجين إلى الحياة، لذلك يبدو الكاتب وكأنه يسافر نحو عالم آخر خلال سرده عوالم لا تشبه تفاصيل الأيام التي يعيشها الناس خارج أسوار السجن، يقع عليه في هذه الحالة ضغطُ المزج بين الثابت والمتحوِّل في الزمان والمكان خارج السجن، فالكتابةُ في هذه الحالة تنضم إليها دوائر عديدة تتصل بالمحيط الخارجي ومتابعته لسنوات السجن. غالباً ما يكتفي الكاتب بالاقتصار على حالة واحدة من المحيط الخارجي، تكون في صورتها العامة تحمل اشارة التغيير الذي مرَّ عبر السنين الطويلة التي قضاها في الاعتقال، سأعرض هنا ثلاثة أعمال أدبية تناولت السجن في سوريا، وكان كتَّابها أبطال الحكاية فيها وشهوداً على فصولها التي عبرَتهم بهزَّات نفسية عنيفة لم يتخلصوا منها مع مرور السنوات. ربما يكون العمل الأشهر عن سجن تدمر في سوريا، حمَل اسم "القوقعة، يوميات متلصص" للمخرج السينمائي والكاتب مصطفى خليفة، هذا العمل تناول فيه خليفة قصة كان شاهداً عليها، ويمكن القول إنه كان حالة الظل فيها، فمازج بين شخصين الأول هو ذاته والثاني بطل الحكاية الأصلي الذي يُدين بالمسيحية واتهمته قوات الأمن بالضلوع والانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، تبدأ الرواية بمشهدية غرائبية لا توحي أبداً بأن هذا العمل يحمل بين طيَّاته كل ذلك الألم الذي ينتقل إلى القارئ من ثناياه، العتَبة الأولى هي الأصعب دوماً في أدب السجون، اختار خليفة أن تكون خطوته الأولى من مطار شارل ديغول في باريس حيث قرر العودة إلى دمشق بعد أن أنهى دراسة الإخراج السينمائي بينما تحاول صديقته الفرنسية ثنيهُ عن ذلك نظراً للظروف التي كانت تصل أخبارها إلى أنحاء متفرقة من العالم عن وحشية النظام، ومصادرته للعباد و البلاد. يعود الكاتب في قلب الألم إلى ذلك المشهد مرات عديدة، يقلِّب فيه من زواياه المتعددة وكأنَّهُ بوابته الوحيدة إلى الحياة في قلب السجن، يقع الكاتب فريسة بين زمنَين الأول عمودي و الثاني شاقولي في الحكاية، يلبس عباءات مختلفة، فهو عند السَجَّان عضوٌ في جماعة الإخوان المسلمين، وعند المعتقلين من الجماعة يلبس عباءة المسيحي الذي لا يجوز التعامل معه إطلاقاً، ثنائيات أُخرى برزت في "القوقعة" اعتمدت في معظمها على الحدَث بوصفه خارقاً للمكن.

عن سجن تدمر أيضاً يحضرنا عمل الناقد السوري "مفيد نجم" الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة "أجنحة في زنزانة"، هذا العمل الأدبي يتقاطع مع "القوقعة" مكانياً بوصف السجن هو مسرح الأحداث ويختلف عنه بآلية الروي، حيث يقدِّم نجم رواية ذاتية حقيقية بتفاصيل كاملة الحدوث مع الأنا الساردة، يبدأ نجم عمله باعتذار ذاتي لنفسه عن كل الألم الذي سببته الروح للجسد في رحلة البحث عن حرية، مسارات الحكاية عند نجم متتالية قائمة على المفارقات في بنية الشخصيات. يبرز الحديث عند نجم عن سنوات السجن الأولى التي تمثِّل في عقل الكاتب السنوات الأصعب والأقسى على الاطلاق، حين كان متروكاً مع آخرين للقدَر مواجهاً كل الاحتمالات بما في ذلك الموت دون أي اهتمام أواكتراث. عمل سردي آخر تناول حالة السجن للشاعر السوري فرج بيرقدار "خيانات اللغة والصمت"، كانت الجغرافيا في هذا النص تنطلق في جوهرها من شخص الكاتب باعتباره شاعراً ومناضلاً تم اعتقاله وكان المكان في السجن هو فسحة اضافية للمواجهة مع السلطة، في خيانات اللغة والصمت الحكاية مبنية على فكرة مصادرة الحريات في بلد تحكمه الديكتاتورية، يوازن بيرقدار بكثير من الألم بين عالَمين يحمل كل منهما تفاصيل تكوينه ضمن بنية العلاقات المتشابكة فيه، فللسجن عوالمه وقوانينه كما للحياة خارج أسواره ايقاعها التام.

قراءة صحفية:

لقد التقيت بحكم عملي الصحفي مع المئات ممّن عايشوا ما حدث ويحدث الآن من زوايا متعددة، كانت رواية الأحداث والتفاصيل عندَهُم ثانوية أمام نتائجها، النتائج تتخذ صوراً عديدة، تظهر جليَّة في الأصابع التي تلتف على بعضها البعض راوية حكاية الليالي المظلمة بين الجدران الرطبة، في الكلمات متلعثمةَ البدايات مجهولة النهايات، في الحاجة إلى قلم وورقة كي يرسم صاحب التجربة آليات التعذيب التي لايستوعبها السامعُ لفنونها العجيبة، ورغم كل هذا الإضطراب إلا أنهم يروون بجرأة و دون تضليل ما حدث لهم و معهم. أمام حالة الشهود الأحياء الناجين من السجون أتذكَّر مقاطع الفيديو التي كانت تتوالى من وكالات الأنباء العالمية إلى أحد غرف الأخبار في محطة إخبارية عربية شهيرة حيث كنتُ واحداً من الجنود المجهولين خلف الكاميرات فيها، كنَّا نقصُّ عن سابق إصرار وترصُّد الصُور التي لا تصلُحُ للبث، ليس لسوءٍ في جودتها التقنية بل لأنها لا تناسب الظهور على شاشات التلفزة، هذا الفعل يُشبِهُ تماماً لحظة رؤيتِكَ على وسائل التواصل الإجتماعي صورة زنزانة مكتوب على جدارِها الأصفر: "لاحياة في هذا الوطن إلا للتقدُّم والاشتراكية" إلى جانب صورة للسجَّان الكبير!.

الرواية نت - خاصّ

download

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم