بـعض الأصدقاء يناقشوني أحياناً حول هذا الحشد من الشخصيات الغريبة، في رواياتي، ويسألونني إن كانت هذه الشخصيات حقيقية أم أنها من وحي الخيال وأنا أسقط عليها أفكاري وشكوكي وأوجهها كما أريد..؟

أعتقد أن هذا السؤال من الأسئلة الصعبة التي يواجهها أي كاتب و كاتبة للسرد الروائي.. فهنا لا يقين مطلق..على الأقل بالنسبة لي، وأنا هنا أتحدث عن تجربتي الشخصية في الرواية لأنني أعتقد أن لكل كاتب وكاتبة خصوصيتهما في خلق الشخصيات الروائية، كما أن الكتاب والكاتبات يختلفون في ما بينهم اختلاف بصمة الإبهام أو بصمة العين من شخص إلى آخر في ما يخص علاقتهم بشخصياتهم..

بالنسبة لشخصياتي الروائية يمكنني القول إنها هي حقيقية، لكن ليس بالكامل، وفي الوقت نفسه ليست من وحي الخيال بالكامل أيضا.. فتشكّل الشخصية الروائية عملية إبداعية معقدة جداً..هي تمازج بين ذاتي والذوات الأخرى..حيث فيها طيف ما من ملامح كاتب النص الروائي، مثلما فيها سيرة ما، غامضة، لشخص آخر في الواقع..! بل أحيانا تكون سيرة الشخصية الروائية هي مزيج لشخصيات حقيقية مختلفة التقى بها الكاتب و الكاتبة في حياتهما.. والحقيقة أن العمل الإبداعي هو عملية غامضة من التقطيع والمونتاج والتكوين الجمالي الذي لا يستطيع الروائي أن يفسر سرها ويكشف عن تفاصيل معادلتها المعقدة.

بعض الكتاب يخططون طويلا لرواياتهم.. ويضعون قوالب فكرية أو آيديولوجية لشخصياتهم، بل ويضعون رسالة لروايتهم، ويجنسون رواياتهم مسبقاً، بأنهم سيكتبون رواية سياسية أو اجتماعية أو تاريخية، حداثية أو مابعد حدائية.. تنتمي لتيار الوعي أو لتيار الميتاسرد.. أو أنهم سيتناولون هذه القضية أو تلك في الرواية.. شخصيا لا أجد ضيراً في ذلك.. فلكل طريقته..، فالمهم أن يتم الاحتكام للبعدين الجمالي والفني..

أنا لا أخطط لرواياتي.. ولا أضع لها أية قوالب آيديولوجية.. بل قد يستاء البعض مني إذا ما قلت إنني لستُ كاتباً اجتماعياً، ولستُ صاحب رسالة أدبية أو سياسية.. لستُ واعظاً أخلاقياً، ولا مرشداً روحياً.. وإنني لحظة الكتابة لا أفكر إلا بشخصياتي الروائية.. بل إنني أنسى نفسي وأتقمص شخصياتي.. فلا تعنيني نظريات الحداثة وما بعدها، ولا نظريات السرد والتلقي، ولا تحليل الخطاب وأصوله.. ولا النقاد أو حتى القراء.. فحينما أكتب فأنني أكتب لنفسي.. منعزلاً في غرفتي.. فالكتابة الروائية بالنسبة لي حياتي الافتراضية التي هي أشدّ واقعية من حياتي في الواقع ربما.. وأنها بالنسبة لي حالة من التطهير الجمالي والأخلاقي أعيشها مع نفسي.. أخفف من خلالها كل ضجيج الأسئلة التي تجر روحي إلى دوامتها العنيفة..

لكنني على الرغم مما تقدم لم أجب على السؤال بشكل صريح: من أين تأتي الشخصيات الروائية.. وكيف تتشكل.. أليس كذلك..؟ طيب.. سأقول شيئاً..: إن كل شخصياتي الروائية هي شخصيات حقيقية، ومستمدة من واقع هذه الحياة.. وإنني عرفتُ وقابلتُ أو تحدثتُ مع الشخصيات الأصلية التي منها شكّلت شخصياتي الروائية.. وفي الوقت نفسه هي ليست سيرة دقيقة لأي من هذه الشخصيات التي قابلتها أو عرفتها أو تحدثت معها في الواقع..!!.

لأوضح أكثر.. أنا أضع شخصية روائية معينة في خضم أحداث داخل البناء السردي للرواية، إلا أن هذه الشخصية ليست وهمية ومتشكلة في خيالي..، وإنما هي شخصية لها أساس واقعي.. كشخص وكأحداث جرت له حقاً في زمن ما..، ربما في طفولتي أو شبابي، وفي الواقع المَعيش.. أحيانا أكتفي بالأحداث الحقيقية التي جرت للشخص الواقعي الذي أعرفه. وأحيانا أخرى أجعل هذه الشخصية الروائية نفسها تمر بأحداث أخرى جرت لشخص آخر أعرفه أيضاً، وهو غير الشخص الأول الذي هو الأنموذج لشخصيتي الروائية، أي أنني هنا أمنح الشخصية الروائية خبرة وتجارب شخصين مختلفين عاشوا أحداثاً في بلدان مختلفة وفي أزمنة مختلفة.. وأحيانا أمنح الشخصية الروائية أحداث شخصيات عديدة أعرفها في الواقع.. وربما أمنح الشخصية الروائية شيئاً من تجربتي الشخصية والحياتية والفكرية أيضاً!! لكن كل هذه الأحداث والتجارب تنسلخ عن أصولها الواقعية لتشكل للشخصية الروائية سيرتها الذاتية والمنسجمة مع سماتها الأدبية.. وهذا ينسحب على الشخصيات كلها من كلا الجنسين.. من الأوادم والحواءات.

في بعض الأحيان أستمع لعدد من الرجال والنساء.. أستمع لقصصهم الحقيقية.. أناقشهم شخصياً وجها لوجه.. أو أتواصل معهم كتابة عبر الايميل أو حتى الفيسبوك.. لكنني حين أشكّل الشخصية الروائية فإنني لا آخذ من سيرة كل واحد من هؤلاء سوى نسبة محددة ومقدرة تساهم في بناء ملامح الشخصية الروائية وتمنحها حرارتها الواقعية وصدقها الإنساني.. بل أحيانا أستخدم نص حواراتي الواقعية معهم لتكون في صلب النص الروائي.. لكن أي شخص من هؤلاء الذين رووا لي حكاياتهم حين يبحث عن نفسه في رواياتي لن يجدها.. وإنما سيجد ظلالاً لها.. وربما يأتي قارئ مجهول لا أعرفه فيجد نفسه في إحدى هذه الشخصيات.. ويقول لي هذا أنا أو هذه أنا.. أو وكأنك تكتب عني..!.

ويحدث أحياناً أن أتناص مع بعض الشخصيات الروائية في الأدب العالمي.. فأشكل شخصياتي الروائية التي تواجه مصائر متقاربة ومختلفة في آن.. فمثلا في روايتي "الجحيم المقدس" يتناص بطلي الروائي الجندي عبدالله بن آدم مع شخصية جوليان سوريل في "الأحمر والأسود" لستندال.. وفي روايتي " مشرحة بغداد" يتناص بطلي آدم الحارس سلوكا وهيئة مع جان باتيست غرنوي بطل رواية "العطر" للألماني زوسكيند، وكذا في رواياتي الأخرى حيث تتناص حكاية آدم بونارتي وزوجته الايطالية إيفا بوناروتي في روايتي "متاهة إبليس" مع حكاية ريتشارد وزوجته أميلي في رواية "الاحتقار" للبرتومورافيا والتي هي بدورها تناص مع الأوديسة وحكاية يوليسيس مع زوجته بينلوبه.. وكذا شخصية إيفا ليسنج وزوجها المخرج آدم ليسنج في روايتي "متاهة الأشباح" تتناص مع شخصيتي كوني شاترللي وزوجها المقعد في رواية "عشيق الليدي شاترللي" للكاتب ديفيد هربرت لورانس..

بالمناسبة.. أنا لا أخفي ذلك وإنما يرد الحديث عن التناص في صلب الرواية حيث يذكر أبطالي هذه الروايات بالاسم ويقارونون مصائرهم بها.. لكن في متاهتي إلى الآن ثمة 72 حواء و102 آدم.. فهناك شخصيات حقيقية أشّد درامية من أبطال الروايات التي ورد ذكرها.. ويمكن القول هنا.. بأنّا كلنا، كل مبدع، لسنا سوى مجموعة أصوات لمن سبقونا ولمن حولنا.. ونحن مجموعة خطى تتداخل لحظة الإبداع.. وأولاً وأخيراً تبقى الحياة هي المسرح الحقيقي للأحداث، والذاكرة هي المنبع الصافي الذي ننهل منه دوماً. لكنني هنا.. وفي هذا المقام.. وأنا أتأمل رواياتي العشر.. ومتاهاتي السبع لحد الآن، وأتابع مصائر هذا الحشد الذي بلغ العشرات من "الأوادم" و"الحواءات"؛ أجد نفسي ملزماً بأن أتوجه بالشكر لكل هؤلاء الذين حكوا لي تفاصيل حياتهم بشجاعة نادرة.. صحيح أن بعض الشخصيات كنت قد شكّلتها من خلال تجاربي في الحياة وتأملاتي في النفس البشرية، واستذكاري لشخصيات عرفتها ولمواقف مررت بي، لكن هناك أيضاً رجال ونساء رووا لي قصص حياتهم بالتفصيل وكشفوا بجرأة مذهلة عن أسرارهم ورغباتهم وتجاربهم وكأنهم في موضع الاعتراف والتطهير.. متجاوزين كل الحواجز النفسية؛ والحدود الاجتماعية المتعارف عليها، وكل التابوهات التي تعيق مواجهة الإنسان لنفسه وذاته العارية.. ربما لاطمئنانهم بأنه لا أحد سيعرفهم شخصياً وبالاسم، ولاطمئنانهم بأني لن أكشف عن شخصياتهم.. فهذا واجبي الأخلاقي ككاتب.. وأنا مدين لهم ولصراحتهم وجرأتهم النبيلة، فلولاهم ما كان مقدرا لي بأن لأستمر بالكتابة الروائية، لاسيما في "المتاهات"، وأنجز هذا الحشد من الشخصيات التي تنتظر على بوابة "المتاهات" العشرات منها أيضاً.. وسيدخلونها بكل محبة قريبا.!. تشكل الشخصية الروائية والبحث عن منابع الإبداع في الأدب والفن إحدى الإشكالات الجمالية والنقدية والسوسيولجية بشكل عام.. ولا يمكن التحقق منها إلا من خلال دراسة عالم الكاتب والفنان.. وقد حاولت الاقتراب من هذه الإشكالية ذاتيا وأدبيا في متاهتي الأولى "متاهة آدم" من خلال اسئلة الكاتب الأول آدم البغدادي عن أصول شخصياته وأطيافها في ذاكرته عندما كتب نصة الروائي "السقوط إلى الأعلى" عن الكاتب آدم التائه وأيضا من خلال أطياف الشخصيات وأصولها في ذاكرة شخصية الكاتب آدم التائه في نصه السردي "المرأة المجهولة" الذي كتبه عن الكاتب آدم المطرود.. وقد تابعت هذه الإشكالية لاحقا في "متاهة الأشباح" حينما تتمرد الشخصية الروائية الرئيسة الكاتب آدم التائه على مؤلفه وخالقه الكاتب الأول الكاتب آدم البغدادي فيقرر كتابة سيرة خاصة له.

شكراً لكن شخص تحدث لي عن حياته وتفاصيلها التي لا يعرفها سواه ومنحني الكثير من أسراره بشجاعة مذهلة.. شكراً لكل الحواءات والأوادم..!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • روائي عراقي

الرواية نت

غلاف متاهة آدم للفايسبوك 16427600_992740660869591_7719933020093094356_n

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم