كيف كان المشهد الثقافي العربي في ٢٠١٦ ؟ هل برز تأثير المثقف العربي كما يجب؟ بمعنى هل لعب الدور المطلوب منه في مواجهة موجة من الأفكار الظلامية التي اخترقت شرائح مجتمعية معينة؟ ما الجوانب التي ينبغي على المثقف العربي العمل عليها؟ هل يقوم المثقّف العربيّ بتفعيل دوره مع الواقع الاجتماعي بطريقة أكثر فعالية وكيف؟ هل تمّ لمس أيّ تنسيق مع الحكومات لإطلاق مبادرات تعزز التأثير الثقافي التنويري؟ أسئلة تفرض نفسها ونحن نستعيد حصاد العام 2016 الثقافيّ، والوقائع التي حفل بها هذا العام بمناسباته الثقافيّة الكثيرة في غير بلد عربيّ، وجوانب من التداخل بين أدوار المثقّفين المأمولة والواقعيّة، ورؤيتهم لكثير من التفاصيل والمستجدّات في سياقها التاريخيّ والواقعيّ، ومحاولتهم السير قدماً في ظلّ التناحر السياسيّ الذي يسود أكثر من بلد عربيّ، وفي ظلّ حروب ما تزال دائرة في عدّة دول في العالم العربيّ.

الكاتب والناقد التونسيّ عبدالدائم السلامي يذكر أنّ أيّام العام 2016 امتلأت بمناشط ثقافية وإنتاجات إبداعية عربية شملت مجالات الكتابة والسينما والمسرح والموسيقى ومسابقات الرقص على "واحدة ونصف"، وقد تأكّد فيها القول بحدوث انفجار روائي كبير تسلّل فيه إلى عالم السرد كثيرٌ من المواطنين العرب هرباً من جحيم الواقع وأملاً في الحصول على جوائز مالية وشهرة أدبية قد تأتي بها الصدفة. ويقول كذلك: كما ازداد منسوبُ الكراهية بين المثقّفين العرب وتنامى الحسد بينهم حتى صارت تحياتُهم بالسَّكاكين. والحقّ أن وقائع العام 2016 السياسية والاجتماعية تنبئ بتقلّص حضور المثقف العربي داخل فضائه الاجتماعي بسبب تلكُّؤِ مواقفه وكثرة محاولات إقصائه من المشاركة في الشأن العام من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة، ومع ذلك لا نعدم له دوراً وطنياً مائزاً تمثّل بالخصوص في دعم الثورات وتنبيه الشعوب إلى مخاطر الرِدّة الحضارية التي سبَّبَها استشراءُ الأفكار الظلامية بين الناس وتنامي عنفها الماديّ والرمزيّ. كما يضيف السلامي قائلاً: والرأي عندي أنّ المثقف العربي مدعوٌّ إلى الخروج عن كلّ شيء ثابت ومتمكِّنٍ في الأرض، وإلى عدم الاطمئنان إلى الواقع وتفكيك خطاباته الإشهارية حتى يقف على مدارات مَكْرها وسلطة وصاياها وتعاليمها، والعمل على فضحها وتقديم أطروحات فنية وثقافية وسياسية جديدة تلبّي حاجات الناس إلى العدل والحرية والكرامة وتضمن لهم العيش المشترك البهيج.

فساد مستشرٍ:

أمّا الروائيّ الجزائريّ محمّد فتيلينه فيكتب تحت عنوان: "السلطة والمثقف العربي: وباء البذرة وفساد الثمرة". أنّه "عندما تسير السياسة نحو الهاوية، فما على الثقافة إلا المسير خلفها" مقولة تبدو أقرب إلى الحالة العربية. فالماسك بزمام السياسة في بلداننا، هو المالك للمصير. وقد لا يشذ المثقفون عن هذه القاعدة، إلا في النزر اليسير. يلفت فتيلينه إلى أن الشعوب العربية نبتت في كنف كثير من الشعارات، كانت السلطات محرّكها الأول والمثقف أداتها المثلى، ولا شك أن المثقف العربي هو نتيجة للمنظومة الاجتماعية العربية، المدجنة على مرّ السنين في دواليب صنع القرار، ولم يكن بوسعه إلا الإذعان لرأي المتغلب، دون تفكير أو إمعان و-لا شك- دون نقد. ويقول إنه لم يكن لهذه الجماهير التي تربت على الشعارات الجوفاء، والرأي الأحادي ومصادرة مطالبها إلا الانصياع والسير دون وعي نحو الهدم الذاتي. ومما زادها انتكاسا تردّي منظوماتها التعليمية والفكرية، مما أنتج عنه بالضرورة طبقة مثقفة، خائرة القوى نقديا ومعرفيا إلا في نزرها اليسر، منساقة نحو مبتغياتها الذاتية وطموحاتها الفردانية. فلم يكن بوسعها أن تلعب دورها التنويري، وساهمت في الدّفع بجموع الجماهير إلى التمرغ وسط الجهل والفقر والانصياع دون وعي إلى الفكر الظلامي. ليزداد اتقادا مع سلب الحرية والتضييق على الناس. اشترك إذن كل من رجل السياسة (صاحب البذرة الاجتماعية الفاسدة)، ورجل الثقافة (الثمرة الموبوءة لتلك البذرة)، وهما ضلعان فاسدان في رسم ضلع الجماهير –الثالث- المشحونة بالفراغ والأحلام السرابية ليتشكل المثلث المتهالك. يصف فتيلينه الحالة بقوله: مثلثٌ نرى صوره الدامية في بلداننا العربية من تونس إلى اليمن مرورا بوصمة العار الإنساني سورية، التي يعيش شعبها في عام 2016، عامه الخامس من الاستهتار الإنساني في أبشع صوره. فإن لم يتمكن ذلك النزر اليسير من المثقفين على قلتهم - ولهم أدوات التغيير المعرفية والحضارية- من إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتنسيق مع ما بقي من عقلٍ سياسي عربي مدرك لبشاعة الصورة، لأكلت نار الفتنة الأخضر واليابس. وليكن ذلك من خلال التسامي على المادية الجارفة والاهتمام بالمقاربة الإنسانية. والاتّكاء إيجابيا على المشتركات بين الجماهير العربية من مختلف الأقطار من خلال اللغة والتاريخ المشترك والمصائر الواحدة، في سبيل توحيد الجهود الفكرية والثقافية، واحتواء واليائسين، وزرع شيء من الأمل في عتمة الصراعات الدموية. ويؤكد صاحب "أحلام شهريار" أن الكلمات قد تكون أسهل نظماً (ولا تعني لتجار الحروب الكثير)، ولكن ما يجعلها ذات بلاغة فعلا، هو الإيمان بها وبأنها هي البدء في هذا الوجود.

جبهات مشتعلة:

ينوّه الروائيّ والناقد السوريّ هيثم حسين إلى أنّ المثقّف في العالم العربيّ يعيش امتحاناً صعباً في واقعه، ويجد أنّ المثقّف يجد نفسه في ظرف تاريخيّ محرج للغاية، فهو يقف في وجه الطغيان والاستبداد وينادي بالحرّيّة والمساواة، ومن جهة أخرى يقف على عتبة المواجهة مع أعداء الثقافة والعلم والنور، يحارب قلمه وفكره أفكارهم الظلاميّة، ويسعى للصمود في وجه هجماتهم التي تحاول النيل منه بصيغة أو أخرى، وتكمن مهمّة المثقّف الشاقّة في وجوب التشبّث بقيم الحضارة والتنوير، ويظل متمسّكاً بصلابته في واقع الأسى وتبادل الاتّهامات. يذكر حسين كذلك أنّه من الجدير الإشارة إلى أنّ العام 2016 حفل بكثير من الأنشطة الثقافيّة التي تساهم في تكريس دور المثقّف، ودور الكلمة الحرّة في واقع سيادة دوي المدافع وأزيز الرصاص في جبهات مشتعلة في العالم العربيّ، وتكمن حرب المثقّف الكبرى في التصدّي للجهل والتخلف وتعرية المتاجرين بالشعارات والدين، وإظهارهم على حقيقتهم، ومقاومة هذا التزييف الجاري للواقع والتاريخ والنهوض بأعباء المواجهة بالكتابة والكلمة المسؤولة. يثني حسين على دور الجوائز ومعارض الكتب والأنشطة الثقافيّة المتنوّعة في تكريس الثقافة كقيمة مثلى في واقعنا بقوله: ساهمت الجوائز المخصصة للفنون والآداب كجائزة الصحافة العربية في دبي، وجائزة البوكر للرواية العربية، وجائزة كتارا للرواية، وجائزة الشيخ زايد بمختلف فروعها، وجائزة الإبداع العربيّ بفروعها المتعددة، وجائزة الملتقى للقصة القصيرة، وجائزة الطيب صالح للرواية، وجائزة نجيب محفوظ للرواية، بالإضافة إلى معارض الكتب الكبرى في عدّة دول، كمعرض الشارقة ومعرض جدة ومعرض الرياض ومعرض أبو ظبي للكتاب وغيرها من المعارض في تعزيز القيمة الثقافيّة وتكريسها كقيمة مثلى في حياتنا المعاصرة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم