"أدب الناشئة"، هي واحدة من أشهر ما اتهم به الخيال العلمي طيلة مسيرته التي بدأت بروايات يبحث الناشرون عن تسمية تهمشها وتدرجها في مدارج تحتية بالنسبة للأدب الكبير ، لكي تنتهي عند الدلالة على الجانب الكثر إشراقا وإبداعا في الثقافة الحالية؛ فأفضل ألام هوليوود هي أفلام الخيال العلمي بلا منازع. اين يبدأ أدب الناشئة وأين ينتهي؟ مسيرة جميلة هي تلك التي قام بها لودفيغ فيتغنشتاين فقد بدأ بمساءلة الفلسفة من وجهة نظر علمية منطقية وضعية وانتهى إلى اعتبارها مجرد تداول للغة، واعتبر أهم مظهر أو قانون يحكم اللغة ومستعمليها ويتحكم في تصريف المعنى هو "اللعبة الكلامية"... مسيرة تعيدنا صوب الخيال العلمي الذي بدأ مع روايات جول فيرن تحديدا كروايات للشباب وانتهى مع سلسلة أفلام هامة كافلام « the matrix » إلى رسم صورة للعالم الذي نعيشه وإعطاء تمثيلات تخييلية للحقيقة وللصلة الفاعلة التي بين واقعنا والواقع التكنولوجي المبني على الاستعارة الذهنية، في التكنولوجيا الكينونة برمجة والبرمجة لغة، فالمتحكم في البرمجيات في واقعنا التكنولوجي الافتراضي يقف امام مظاهر واقعنا الأكثر حساسية: الرزق- المعاش- الرعاية الصحية- المدخرات، ثم يقول لها: كوني (وينقر على لوح ما) فتكون...وهذا ما كان يحلم به جول فيرن، وكان يخشاه هيربرت جورج ويلز، وهذا ما حذر منه ألدوس هكسلي في مدينته غير الفاضلة تماما، وهذا هو واقعنا اليوم، واقع بدأ كلعبة تخييلية وانتهى إلى جد لا هزل معه. بين عامي 2008 و2012 كنا نعيش على إيقاع الأزمة المالية وهو إيقاعٌ الأداةُ المادية الرئيسية فيه هي الحاسوب؛ هي جهاز فيه أزرار الضغط عليها قد يؤدي إلى كارثة لا تستثني أحدا، وهي صورة مألوفة في أفلام الخيال العلمي القديمة أين كان يتم تصوير علماء مجانين يتلاعبون بمصير العالم بسبب جنون العلم أو جنون العظمة أو أي مس تتسبب فيه سلطة العلم. ولا شيء قد تغير فالأخصائيون الاقتصاديون وعلماء المالية والرياضيات المالية وتقنيو المبادلات البنكية والمتعاملون الماليون (التريدرز) الذين تسببوا مباشرة في الأزمة كلهم علماء، ولكن علم المخبر الذي كان يفتن الناس منذ قرن أو نصف قرن قد تحول إلى علوم أخرى، معارف من الإنسانيات على ايامنا قد تلعب نفس دور المعارف الفيزيائية الكيميائية بالأمس القريب او متوسط القرب. لا يوجد أي حلم مر بالخيال العلمي دون أن يتحقق، عدا بعض الشطحات الفانتازية التي نعلم استحالتها ولا نبالي لها من باب أن إيرادها لا يتجاوز الهدف الرمزي التعبيري وكفى. إذا عاينا اعمال الخيال العلمي اليوم سنراها مأهولة بالأسئلة الفلسفية؛ وهذا جديد على هذا النوع الذي أتخم تاريخه بتهم "أدب الناشئة" ... الفلسفة التي تتساءل عن معنى الإنسان، وهدفه في الحياة، عن معنى الدين، ما الثابت في التاريخ وما المتحرك؟...أسئلة ينطلق منها كل من الخيال العلمي والفلسفة بشكل تلقائي. لسائل أن يسأل ما الصلة بين الاثنين؟ سنقول: ينطلق الخيال العلمي من نقطة التفكير في الإمكانيات العالقة التي من شأنها أن تنبني في مستقبل قريب بناء على مستجدات الحياة؛ تلك المستجدات التي ترد على الحياة بناء على جديد العلوم والأنظمة السياسية، وهي نقطة تجعلنا نفكر بطرح السؤال: ماذا يمكننا أن نفعل الآن بهدف تحسين ظرف الغد القريب...ولكن الطريقة التي يشير إليها الخيال العلمي هي طريقة خاصة، فمن مميزات قصص "خ. ع" أنها تعني جمهورا متعدداً . والحقيقة أن القصص التي تبدو أنها موجهة للناس أجمعين؛ وهي حال جل قصص هذا النوع، هي قصص تضع برنامجا للبشرية جمعاء كي تفكر فيما هي بصدد التفكير فيه..وذلك هو بالضبط ما تفعله الفلسفة. تصميم برنامج للتفكير في الوضع البشري، لنقده ولإصلاحه أو تحسين ظرفه كما أسلفت. سنعود هنا إلى موقع الطفل الصغير الذي ينطلق من نقطة متواضعة جميلة هي نقطة الجهل التام بالأشياء، نقطة الثقة في السؤال لا في ما هو معه من معارف... الطفل فيلسوف لأنه يعلم – على عكسنا نحن الكبار- بأنه لا يعلم شيئا، وهذا هو الدرس الكبير الذي ينبغي علينا تعلمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وروائيّ جزائريّ

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم