يمكّنك الفيسبوك والميسنجر وباقي برامج التواصل الاجتماعي من إحياء فن المحاورة ...ذلك الفن الذي عمل القرن العشرون تأسيا بالقرن التاسع عشر على قتله إلى درجة كبيرة بإيعاز من المدح المفرط للفردية والعزلة والانعزالية والفردية...قيم دارت الحداثة حولها مؤلهة ذلك الفرد المتفرد الذي يعمل جاهدا على المحافظة على فردانيته داخل الجماعة التي تشكل دائما خطرا على قيم الفرد... إن تطور الإنسان قد سار به طيلة هذين القرنين الشاذين صوب الخروج التام من الدائرة الجماعية على أساس كونها تشكل خطرا معينا على سلامة فكره ونزاهة روحه التي هي روح متفردة متميزة ذات بصمة ينبغي الدفاع عنها. وقد صار إنسان عصر الحداثة صامتا منغلقا على نفسه مقدسا لحالات كالقلق والغثيان والخدر الحسي ، ورافضا للاجتماع والحوار والتواصل والنظر إلى الذات في مرايا لآخرين. أنتج كل ذلك مقولات الغربة والتغريب، والوحشة، والجنون، والريبية المطلقة، وتقديس الفوضى واللانسقية والنزعة الثورية المبالغ فيها بسبب اعتبارها أي شكل من أشكال الانضباط المجتمعي أو الالتزام الفكي أو الانصياع السياسي قيمةً سلبية، وفي هذا تعميم، وخلف كل تعميم تعتيم كما هو معروف.

  • المحاورة لدى فيلسوف مثل سقراط أو تلميذه الفذ أفلاطون هي كشكل للممارسة فعل التفكير، بحث إننا اليوم لا نملك عملا لسقراط مثلا ولكننا – مع ذلك- نستخلص آراءه الهامة من الآثار التي تركها من خلال تركيزه الكبير على المحاورة كطريقة في التفكير، وعلى يقظته المبكرة التي جعلته شديد الحذر من النزعة الاكتفائية القاتلة التي يقود إليها التمركز حول الذات، والتفكير على صعيد فردي. يقودنا الحوار إلى النتيجة الهامة التي هي أن الحقيقة لا تغدو تلقينا بل نتيجة لبحث مشترك يلعب في المحاور دورا لا ريب فيه.وليس هذا المسعى لدى سقراط ببعيد عن الموقف المعادي الواضح الذي اتخذه سقراط وأتباعه من التعالي الفكري للسوفسطائيين الذين نسبوا لأنفسهم المعرفة وأقروا استحواذهم التام على الحقيقة. تهمنا اليوم العودة إلى المبدإ السقراطي الذي جره – وينبغي أن يجرنا – صوب الإعلان الشجاع : " كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئا !!" ...وهي دعوة صريحة صوب ضرورة ضخ التفكير بالحس نقدي، وهو ذلك الموقف العقلي الذي يدفع صاحبه إلى الحذر والتريث في الخضوع للمسلمات والمعارف الجاهزة قبل إخضاعها للفحص والتحليل. يحيلنا هذا بغرابة وبمتعة على إضافة فلسفية من القرن العشرين؛ والمقصود طبعا هو فلسفة التواصل لدى يورغن هابرماس؛ الفيلسوف الأماني الكبير الذي كسر البروج العاجية للفلاسفة داعيا الجميع إلى إخضاع الفكر لامتحان الواقع، وكاسرا يقينية الميراث الفلسفي لفائدة مقاربة تذكر بجون ديوي والبراغماتية الواقعية الحديثة، مقاربة يسميها "التواصلية" فحواها أن ادعاء الحق الذي يولع به الفلاسفة في كل فترة ولعا مبنيا على نبذ الآخر وإثبات الذات، و بدلا من ذلك يدعو هابرماس إلى قيم التواصل التي لا تقوم على الغلبة وهاجس الهيمنة، والعالي المعرفي والرؤيوي والبلاغي أيضا، من منطلق ملاحظته للسحر الكبير الذي تسلطه صياغات فلسفية معينة بسبب بلاغتها العالية وأساليبها التي تأخذ الألباب، في مقابل كل ذلك يقوم قوام فلسفة التواصل على المحاججة والإقناع، ومقارعة الحجج بعضها ببعض لكي تكون الغلبة للقوى لا للأحلى أو الأطلى.. ولأجل ذلك استعاد هابرماس مفهوما كانطيا هاما هو "مفهوم الفضاء العمومي" الذي يبشر بالممارسة الديمقراطية، وبنوع من إشاعة تداول المعنى بين الناس. أمارس هنا لذة أدبية على حواشي تأملاتي الفلسفية ناقلا عصارة جيدة مما ورد في محاوراتي على مواقع التواصل الاجتماعي مع أصدقائي وشركائي المعرفيين وطلبتي المتميزين وأصدقائي الذين أحترم رأيهم وأشاركهم لذة المحاورة بحثا عن الهدف المطلق للإنسان في الحياة: البحث عن الحق وبلوع الحكمة، "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" – صدق الله العظيم-

من القطوف الجميلة في علب المحادثة:

  • لماذا لا نملك ناقدا عربيا مثل هنري غييومان H. Guilleminالفرنسي المختص الكبير والذي لا يضاهى في القرن التاسع عشر يعيد النظر في أكبر القناعات وأكثر الأحكام رسوخا فيما هو متعلق بهذا القرن مما هو أحكتم نقدية راسخة ودروس أدبية متكررة في المدارس...هل يمكنك أن تتصور يا أستاذ مفكرا في الجزائر ينتقد الأمير عبد القادر ومصالي الحاج وفرحات عباس وعبد الحميد بن باديس، كما يعيد قراءة بكر بن حماد وابن رشيق في ضوء مذهب متشكك في المكاسب التي غالبا ما نتعامل معها على أساس كونها قناعات "تاريخية"؟...هل يمكنك أن تتصور رجلا يتعامل مع التاريخ بريبية كبيرة ويفضل تأريخا نسبيا بدلا من التاريخ اليقيني الذي نعرفه؟

  • البلاد أكبر من الأعلام... وأكبر بكثير من تصرفات رجال السياسة الحاليين...رؤساء الأحزاب المكلفين بمهام وسخة واضحة...رجال الأعمال الذين يدخلون السياسة لهدف واحد فقط: التكتل لتشكيل جماعة ضاغطة لا هدف لها سوى المحافظة على مصالحها... والكتاب والمفكرون والشعراء خاصة غالبا ما كانوا يعملون على جعلنا ننسى الظلام المهيمن ونتذكر الضوء...ذكريات النور الجميلة التي تجعلنا نعي بأن الظلام ليس قدرا بل مرحلة سبقها النور ولا بد ان يلحق بها نور ولو بعد حين...الحلم إسمنت الواقع...والواقع بلا حلم/أمل/خيال يصبح كابوسا...

  • الصحافة اليوم تتعامل مع كل ما هو طارئ وسريع وعابر...أهم ما يميزها هو قصدية عدم التحري فاتحة الباب لثقافة الكذب والإشاعة والنقل الأخرق لأخبار لا أساس لها من الصحة...في الغرب وعند الدول المتقدمة هذه الممارسات يتم تجريمها وعندنا في الشرق الجريمة الوحيدة هي الوقوف ضد المصلحة الفردية المحصورة الضيقة للجماعات الحاكمة...وحتى الحقيقة تصبح مصادرة في إطار البرنامج السياسي المعقد للمحافظة على الجهاز الحاكم؛ نظام الوفاء الأعمى والولاء المشروط...أما القانون فيعطل لأسباب أمنية على العموم من أجل ألا يتحول ذات يوم إلى حجة ضد الجهاز الحاكم المهيمن ظلما واستبدادا...ويضاف إلى هذه المعطيات الخاص بالدول المتخلفة مشكل كبير ينتج عن غياب الصحافة المختصة ذات الجودة المهنية العالية...وهو غياب يضمن للعمل الصحفي اكبر خطر ممكن يحق بها: انعدام المسافة وهامش التفكير والتأمل في الخبر وفي الحوادث وأبعادها...

  • من الأشياء التي صدمتني بشدة إجابة رئيس الحكومة للصحافة التي ساءلته حول مبررات سياسة التقشف، والسؤال المركزي: للجزائر أموال كثيرة راكمتها في السنوات الأخيرة بفضل الارتفاع الفاحش الذي طال أمده في أسعار البترول: إلى أين ذهبت كل تلك الأموال؟ كيف تبددت بهذه السرعة؟ لقد أجاب سلال بكل بساطة وبلا أي تردد: المال الذي تم تضييعه لم يتم نهبه من طرف الأجانب؛ هو مال الجزائريين أخذه الجزائريون...هل يعقل ان يقال كلام كهذا في بلد عانى ما عانيناه؟ والغريب أنه لا أحد يستهجن شيئا...عولنا على حركة "بركات" التي نشأت منذ سنتين أو أكثر لممارسة ثقافة الإدانة ...ولكننا نرى رجالاتها (وخاصة "نساءاتها" يعيشون عيش الأثرياء الذين لا يبدون أدنى استعداد للنضال والمواجهة...معارضة حريرية ورفض سياسي مخملي...

  • يروقني التفكير ضد التيار، الخروج التام عن الطرق التي جرت العادة أن تكون طرق الناس المتبعة... تصبح الثقافة بخير حينما يأتي رجل يحول اتجاه السفينة من النقيض إلى النقيض؛ تماما كما فعل رائد الزنوجة إيمي سيزير المارتينيكي وهو يقلب قراءة التاريخ رأسا على عقب في 1950 قائلا في أعطاف "خطاب ضد الاستعمار": "يستحق الأمر إجراء دراسة سريرية بالتفصيل حول نهج هتلر والحركة الهتلرية. دراسة تكشف لبورجوازي القرن العشرين، شديد التميز والأناقة والمسيحي إلى حد بعيد، أنّه يحمل في داخله هتلر لا يعرف نفسه، أنّ هتلر يسكنه، أنّ هتلر هو شيطانه (...) وأنّه في الحقيقة، ما لم يغفره لهتلر، ليس الجريمة بحد ذاتها، الجريمة ضد الإنسان بل الجريمة ضد الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وكونه طبّق على أوروبا أساليب استعمارية لم تكن تطبّق إلا ضد عرب الجزائر وعمال الهند وزنوج أفريقيا."

  • كلما تابعت الأنباء في العالم؛ أو ما يسمى "أنباء الساعة" وجعلت أحللها محاولا الانتقال من المظاهر صوب الجواهر، وجدت نفسي مقتنعا بأن مسيرة التطور البشري تحتاج إلى قليل من التخلف...وإن كانت الدعوة إلى التخلف عسيرة بعض الشيء...والأفضل هو جعلها دعوة للتريث على الأقل...دعوة إلى قراءة التاريخ...إلى فهم تجربتي الأندلس وصقلية الأوروبيتين...والتواصل مع الشخصيات التاريخية ذات الطابع العالمي: الإسكندر المقدوني، الخليفة العباسي المأمون، ابن رشد، غوته...الشك في العلم...كسر شوكة الرأسمالية الإمبريالية... استعادة الشعور بالإيمان والخوف من الله ( مهما كانت طبيعة الدين ونوعه) لأن الإنسان الذي لا يخشى الله على أي مذهب من المذاهب هو إنسان متحجر القلب لأنه مغرور ويحلّ نفسه محل الله...كل هذه الأفكار تاتيني وفيها جميعها نزوع صوب استعادة نمط من الحياة قديم...والخلاصة سؤال( أليس السؤال خير مناورة لأجل ضمان حياة المحاورة؟):هل تكون أهم أجوبة المستقبل كامنة في الماضي؟

ـــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وأكاديمي جزائريّ

 

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم