السّيرة الذّاتيّة "الأسئلة طرق إلى إجابات ممكنة" قد يتساءل البعض عن قيمة السّيرة الذّاتيّة في السّرد، أو في أجزاء منها. العبرة لا تكمن في الأحداث أو التّلهّي بها، إنّما في التّجربة الّتي نجد صداها في ذواتنا حين نقرأ، وفي الرّؤية الّتي تحكم القصّ. نحن نتمرأى في ما يكتب الآخرون (نرى أنفسنا في مرآة ما نقرأ). لكلّ منّا تجاربه وقصصه، مهما بدت بسيطة وعابرة؛ فلنحاول تدوينها وفق رؤية تخصّنا. إنّما السّرد قيد التّساؤل، يطرح الأسئلة، من خلال التّجربة، من وجهة نظر نفسيّة أو اجتماعيّة أو إيديولوجيّة، ولا يقدّم إيجابات. *** تابوهات 1 أول تابو تواجهه الفتاة الشرقيّة مفاده أن ”لا تلعبي مع الصبيان” و”انتبهي كيف تجلسين حين تلبسين التنورة أو الفستان” لم يكن هذا أول تابو يواجههني إنما جاء متأخّرا، وسأتحدّث عن ذاك الأول في مقال آخر، لكنّ هذا التابو ولّد في نفسي كراهية للفستان والتّنورة وترسّب في لاوعيي ولم أستطع التحرّر منه إلاّ منذ بضع سنوات. وكان ينقصني، عدا أمي وجدّتي تربية الرّاهبات في المدرسة لنا ومحاضراتهنّ! *** تابوهات 2 التابو الطبقي- الاجتماعي درست سنوات معدودة في مدرسة الرّاهبات، وأقولها بحزن، إني اكتشفت أولى دلالات التمييز الطبقي في صغري على يد إحدى المدرّسات الفضليات حين طلبت إلينا أن لا نتحدّث مع تلامذة المدرسة الرسميّة المجاورة لمدرستنا، معقّبة في تبريرها بأنّهم ”غير مهذّبين”. ما هي إلا أيّام معدودة تمرّ على هذا الحكم، حتى ألتقي مصادفةَ، بتلميذة من تلك المدرسة، نتقارب في العمر؛ وذلك في الشارع المؤدّي إلى مدرستينا. كانت تعود أدراجها، لسبب ما أجهله. ابتسمت لي من بعيد، فكانت الاستجابة العفويّة ”للإنسان” أن يردّ بابتسامة مماثلة، فابتسمت، وسرعان ما تراجعت وعبست خافضةَ نظري حالما تذكّرت ”البيان رقم 1” المشؤوم لمدرّستي. غير أنّي لم أقوَ على الاستمرار في خفض نظري، عدت لأنظر في عينيها بعد أن اقتربنا، كانت سماتها هادئة وعفويّة، ونظرتها تنبض بالحياة والحبّ والفرح والرّقّة. بادرت إلى إلقاء التحيّة عليّ، فرددت بالمثل؛ وسرنا في طريقينا، لكنّ الخشية من أن أكون قد اقترفت ذنبا ما بردّ التحيّة رافقتني في دربي... هذه الفتاة هي اليوم أعزّ صديقاتي وأرفعهنّ ذوقا وتهذيبا. لم يكن ثمّة فارق طبقي فيما بيننا سوى أنني، لسوء حظي أو لحسنه، أدرس في مدرسة خاصّة وهي تنتمي إلى مدرسة رسميّة. تابعت علومي في مدرسة رسميّة وأستكملها في الجامعة اللبنانيّة ”الوطنيّة” وأدرّس. في مدرسة رسميّة، ولم أكتسب بطبيعة الحال مبادئ التّهذيب من تلك المدرّسة... مجتمع من دون تمييز طبقي أو اجتماعي أو ديني أو جنسي أو عرقي يبدأ في البيت والشارع والمدرسة. يبدأ في الفكر قبل أن ينتقل إلى التشريعات البرلمانيّة. *** تابوهات 3 التابو الإيماني – الدّيني لعلّ أوّل التابوهات التّي واجهتها في مجتمعي التعدّدي، وأعمقها تأثيرًا في حياتي، وأبعدها أثرًا في كياني- كينونتي هو هذا التابو المتمثّل في التجربة الآتية: عدت يومًا من مدرسة راهبات المحبّة (Arc En Ciel) اليوم، وكنت في السّنة التمهيديّة (التّحضيريّة لما قبل المرحلة الأساسيّة)، أحمل بيدي كتابًا يضجّ بالحياة، حياة يسوع المسيح بعالمه المتشكّل ألوانًا وحبًّا للأطفال والحيوانات. أقلّب الصّور طوال المسافة في الحافلة الّتي تقلّني إلى البيت، وأخال نفسي حملًا في حضن ذلك الرّاعي الوسيم. حالما وصلت إلى البيت، وقبل ال"مساء الخير" والقبلة على خدّ أمّي، أريتها الكتاب، أزقزق كطائر وجد الشجرة الوحيدة في القفر، صارخةً:" انظري ماذا وزّعت علينا ma soeur (الرّاهبة الأخت)". أخذت الكتيّب مني وسرعان ما امتقع لون وجهها هامسةً:" يا ذلّي! بدهن (يريدون) يعملولي البنت مسيحيّة"، وأردفت:"غدًا، تعيدين الكتاب للراهبة، وتقولين لها: ماما لم تسمح لي بالاحتفاظ به". وأبقته في حوزتها. لا اجد سبيلًا إلى وصف حالتي كيف انقلبت من عصفور يزقزق إلى طائر مذبوح يفرّ من جهة إلى أخرى ويضيع في الاتّجاهات، إلى الّلامكان... لم أفهم لِمَ؟ ماما تحبّ الرّاهبات، وصديقاتها مسيحيّات، وسهراتنا الشّهريّة مع أصدقاء مسيحيّين. لِماذا؟ لم أكن أعرف سوى أنّني استيقظت في اليوم التّالي على تنهيدات عميقة؛ إذ بقيت طوال ليلي أنشج واحلم بعالم قد انتُزع منّي. ما أفهمه اليوم، هو أنّ المسيح طريق حياة وليس شخصًا يُعبد، وهو القائل:( أنا الطريق وأنا الحياة).. والعبادة طريق؛ بهذا المعنى أنا مسيحيّة. على الهامش: ربّما يقول البعض أن ماذا كان على الأم أن تفعل؟ أنا لا أطرح المسألة من وجهة نظر الأم، بل من تأثير الحدث النّفسي في الطفل،وفي ما يترسّب في وعيه الوجودي.

**** التّابوهات المصدر الأوّل للقلق التابوهات تسيّرنا وتحكم سلوكاتنا، بل إنّها تشكّل هويّاتنا قبل أيّ إمكانات ذاتيّة- بدهيّة أخرى. الّلامفكّر فيه، أو "ذهنيّة التّحريم والتّقديس" هي الشّبح (وليس الطّيف) المزروع والمعشّش كابوسًا في ذاكرتنا، يملي علينا اتّخاذ قرار في أيّ موقف في وجهة دون أخرى. للخلوص برؤية شاملة عمّا سردته من "خبريّات" توضح تجلّيات التابو في حياتنا، من تابو علائقي- جنسي إلى تابو اجتماعي- طبقي، فتابو إيماني- ديني... يتبدّى التابو مصدر القلق والخشية والشّك؛ فهل تخرق التابو وتختار بنفسك؟ ذلك كما فسّر الدانيماركي سورين كييركيغارد (فيلسوف وجودي ديني) حين أورد قصّة آدم وبداية قلقه أمام الأمر الإلهي:(أمّا شجرة معرفة الخير والشّرّ فلا تقرب، أو لا تأكل منها). فآدم لا يعلم ما هي شجرة المعرفة، ولا يفقه معنى العقاب، لكنّه خشي من إقدامه على المعصيّة: ماذا لو اقترب من الشجرة؟! ماذا سيحدث؟ القلق سبق اتّخاذ القرار. اختار آدم التّناهي (الخروج من الجنّة)، والاختيار يعني الحرّيّة، والحرّيّة بأن يكون مستقلًّا هو الذي ولّد القلق واللاطمأنينة لديه دائمًا بحسب كييركيغارد. إذا قُيّض لي أن أشرح لطلّابي، يومًا ما، مفهوم كييركيغارد في القلق والاضطراب، سأورد هذه الأمثلة في التربية الطّفليّة الإسقاطيّة، تربية يستغلق معها كل فهم. تمامًا كما في النّصّ الدّيني وأحكامه: لا تفعل، لا تسأل، لا تشكّك.. وتبقى الخشية رفيقة دربنا. استطرادًا، واستعاريًّا، نحن – أبناء وبنات آدم – لولا اختياره التّناهي لما وُجدنا؛ وبذلك نحن مجبولون بالشّكّ، والقلق يحاصرنا من كل صوب، والأمل كذلك الأمر؛ إذ يبقى السّؤال: لولا أمل آدم بعفو إلهه ورحمته، أكان اختار المعصية؟!

***

كاتبة وأكاديمية لبنانية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم