يبدو أن شوقي إليك هذا الصباح، دعاني لتفقد ذاكرة الأمكنة في المدينة، وبدل أن أكمل سيري إلى العمل، توقفت عند المقهى القريب منه، لوهلة نسيت أنني جلست معك هنا، قبل أن تذهب إلى المطار، وهيأت لي ذاكرتي المتعبة بالحنين موعداً صباحياً معك لنشرب القهوة. حين دفعت الباب الزجاجي، تأملت صفين من الطاولات المستديرة، والكراسي المشغولة برواد شبه دائمين، وفي الركن القصي، رأيت طاولتنا مزدحمة ببقايا الآخرين، الذين وقفوا لدفع الحساب. ابتسمت، وقلت في سري: هاهو المكان مثل عادته وفياً يحجز نفسه لأشواقي، أسرعت إلى نفس الطاولة، لم أتحدث مع النادل، أخرجت أوراقي لأكتب إليك ريثما تأتي، بعد دقائق وضع قهوة واحدة، وكأس ماء واحد، رفعت إليه نظرة تساؤل بصمت: عن الفنجان الثاني، أدرك ما أرمي إليه، أجابني: سيدتي بالأمس كنتما هنا وأعتقد أنه كان يجر وراءه حقيبة سفر، هل عاد بسرعة؟ لعنت النادل، والمقاهي التي تعتاد أسلوب حياتنا، وتخمن طلباتنا دون كلام، وهاهم يتجسسون على حياتنا العاطفية! ويقيسون أشواقنا المفضوحة بشدة الهبل التي نحمل آثارها على وجوهنا! ولأنّني لا أتعلم من كل الحماقات التي ارتكبها، تحيك الأمكنة مؤامرات بعض الأحيان ضدي، وتمنحني مزيداً من الخيبات، عندما أصر على زيارتها في غيابك. في المساء، بعد أن تيقنت من غيابك اجتاحني شعور بالحزن، وقبلت دعوة الأصدقاء إلى مقهى أخر، كنا نتردد عليه معهم، كان الجميع حاضراً إلا أنت! قبلت الدعوة. وأمام باب المقهى الواسع، وقفت مترددة بالدخول، تفقدت الوجوه من حولي، أضفت لشعوري الغربة. الجميع يحيط بي، لكنني وحيدة دونك، أضفت لشعوري الوحدة، المكان والوجوه لم تعد تعني لي إلا أنني أهشم ذاكرة جميلة لنا في هذا المقهى، أخون المكان بالحضور وحيدة دونك معهم! سمعت صوتي مخنوقا يردد: أريدك الآن معي أريد الاستماع إلى صوت أنفاسك الدافئة تقترب من وجهي هامسة. تنطلق موسيقى وأغانٍ من أرجاء المقهى، أشتاق لصوتك يغني لي، أو حتى وأنت تنشد الأشعار، وحين أوقفك للحظة أسألك عن المعاني، تبتسم وتهمس أن نصف المعاني رسائل ملغمة بالأشواق، ولا يجوز شرحها حتى لا يفتضح أمرك أكثر من ذلك! أصبح الشعورالآن، مثقلا بالحزن والغربة والوحدة، ولم يتبق ما أضيف إليه سوى كلمة واحدة الشوق، وهاهي المقاهي باتت تحجزاً مقعدا للأشواق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة وروائيّة ليبيّة

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم