يخترق الروائي أحيانا جدار التاريخ ليكون انتقائيا في الحدث وسرده دون تراتبيات الوقوع. هل يحقّ للروائي أن يكون شاهداً على أحداث روايته ليكون النص باحتمالياته العديدة حالةً من التأريخ الكلِّي والشخصي؟ هذا التساؤل يطرح نفسه من خلال العديد من الأعمال الأدبية التي بدأت بالظهور مؤخراً بعد أن تجاوز الحدث الحقيقي على الأرض وفي المدن المحترقة حالة التخيُّل الأدبي والإبداعي.

اللجوء إلى التاريخ الخاص بالجغرافية أو بالإنسان العادي صار ثيمة وهذا ليس مثلمة بالمطلق، إنها حالة من التعبير التي تستند إلى فنون القول وآلياتِه ضمن معطيات الحكاية التي يشتغل عليها الكاتب، ومصداقيتها لا تنبع فقط من مصداقية الكاتب وانسجام كتاباتِه مع مواقفه الشخصية وإنما ترتكزُ إلى الذاكرة الجمعية التي شاهَدَت وعاصرت وعرفت التفاصيل في التاريخ الشفاهي غير المكتوب، التاريخ المسكوت عنه والمتداول في العُتمة.

يخترق الروائي أحياناً جدار التاريخ ليكون انتقائيا في الحدث وسرده دون تراتبيات الوقوع، وهذا خاضعٌ لمجمل البناء الروائي ورسالته الظاهرة والخفية، الروائي هنا ليس مطالَباً بالارتكاز إلى علم التاريخ وآليات دراسته وتوثيقه، فما فعلَه مثلاً محمد المنسي قنديل في روايته الأخيرة التي وصلت للقائمة الطويلة في جائزة البوكر لهذا العام، “كتيبة سمراء”، والتي تتحدث عن كتيبة من جنود وادي النيل قاتلوا في المكسيك تحت قيادة فرنسية لتثبيت حُكم ماكسيمليان النمساوي على العرش الذي أقامَهُ المحتلّ، في تلك الرواية مثلاً استند المنسي إلى حقيقة راسخة في وجود مقاتلين من وادي النيل لكنه لجأ إلى الفانتازيا التاريخية لسرد الحكاية دون التقيُّد بالحدث الحقيقي، رغم وجود أحداث عديدة في تقاطعاتها السردية سواء المشرقية أو الأوروبية في تفاصيل الصراع على النفوذ و التحالفات في ذلك الزمان، وبالتالي لا يمكن اعتبار هذه الرواية وثيقة تاريخية وكاتبها لم يقدمها على أنها كذلك.

مثال آخر يطالعنا في ذات الزاوية من التاريخ الحديث حيث تناول كنعان مكية في روايته الصادرة حديثاً “الفتنة” عن دار الجمل، الساعات الأخيرة في حياة الرئيس العراقي صدام حسين قبل إعدامه، حيث تبدأ الرواية وتنتهي في أربع ساعات عملياً، تبدأ من لحظة تسلُّم القوات العراقية في الساعة الثانية فجراً لشخص الرئيس المعتقل وتنتهي في السادسة عند إعدامه، لكن مكية هنا يعمد إلى تراخي الزمن لتمر العقود المكثّفة في تلك الساعات من خلال سرد تاريخ المدن العراقية والخلاف الشهير -عراقياً- بين العائلات التي تولَّت زعامة البيت الشيعي، وفق خط درامي متنامي الأحداث في صيرورة واقعية مفهومة للعارف بالتاريخ الشفاهي الحكائي، والمأخذ على مكية يبدو في إغراق الذاتية في نص ” الفتنة” من خلال بروز أناه الذاتية رغم اختفائها في النص، لكن يمكن للقارئ أن يلحظها بين السطور بصورة الموسيقى التصويرية التي ترافق العمل الدرامي، فالكاتب أراد تقديم شهادة “تاريخية، حية، ذاتية” في آن واحد لمشاهداته، وبالتالي هو اقتنص من التاريخ حدثاً وقام بإنتاج شبكته الدرامية وفق المتاح في فن الرواية، لكن السؤال هنا: هل هذا حقيقةً ما حدث مع صدام حسين في غرفة الانتظار قبل الإعدام؟

رغم كل الواقعية التي يحاول كنعان مكية أن يبثها في النص إلا أنها تتناقض مع روايات الآخرين التي اتفقت في شكلِها العام الذي أخرجه مكية لكنها اختلفت في التفاصيل التي تُشكِّل ما حدَث. تتنوع المسارات التي يمكن للكاتب أن يلجها سردياً عندما يتناول سبراً حقيقياً للذات الواحدة المعتمدة في تفصيلاتها على الأجزاء الصغيرة التي يُشكِّل الإنسان إلى جانب الجغرافية والتاريخ أحد أعمدتها، وهنا قد يطالَب الكاتب بالوقوف على مسافة واحدة من كل الأبطال في العمل، ولكن كيف يقف على مسافة واحدة وهو يلجأ للسيرة الذاتية والجمعية كي يؤرِّخها عن قصد أو دون قصد، يسميها البعض هنا حالة من السطو غير المشروع على آلام الآخرين وأوجاعهم لكنها في حقيقة الأمر مراجعة ذاتية في المقام الأول تبدأُ بالاتساع من خلال دوائر السرد وصولاً إلى الهيكلية الكاملة للحكاية، التفاصيل فيها جزءٌ من الكل والكلُّ هو المظلة الجامعة للأجزاء المبعثرة.

تاريخنا العربي أو الإسلامي على امتداده في جغرافيات عديدة غني بالحكايا والقصص التي تمثل روايات نائمة تحت الغبار بحاجة إلى من ينفض ما تراكمَ فوقَها لتعود للقارئ بكامل الألَق الذي حدَثت به.

كاتب من سوريا مقيم في بروكسل

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم