باتت الرواية في المجتمعات المتطورة، وحتى التي تود التطور وتسعى إليه، حالة ضرورية، بل باتت حالة واجبة لا مناص منها، كون الرواية لم تبقَ كما كان يُنظر لها و كأنها ليست إلا نوعاً أدبياً يتناول جانباً مهماً من جوانب الحياة المعقدة أو الغريبة، فالآن صارت الرواية أهم نوعٍ أدبي من بين جميع الأنواع الأدبية قاطبة، فالروائي يستطيع بما له من قدرة حيوية ومؤثرة وجمة أن يكتب عن أي شي، ولكن دون أن ينسى إنه يكتب رواية بما له من قيم ودوائر وفرضيات أدبية محضة. أما المجتمع الكردي إن كان لنا أن نجعله في الركب العالمي الروائي، فإنه في آواخر الركب إن لم يكن آخره على الإطلاق. وأغلب الظن السبب الرئيسي يكمن ويتصل بالتاريخ المروع للكرد، كشعبٍ فُرض عليه حساسيات سياسية خارجية مع الشعوب المتعايشة معه وأخرى كشعب له تنافرات داخلية بين مكوناته التي تتنافر أكثر بكثير من انسجاماته، وكلا السببين، كما أعتقد، مرتبطان معاً ما للارتباط من معنى، ونتيجتهما أو نتائجهما التي هي متشعبة ومستفيظة تؤثر في مسيرته كشعب ومن ثَم كأفراد، وهذه النتائج بدورها تؤثر في الحياة الثقافية كما تؤثر في الحياة الاجتماعية وغيرها من جوانب الحياة الأخرى، وكلها مجتمعة أو فُرادا تؤثر في الكاتب و الروائي، حيث إن الكاتب أقل ما يجب أن يملكه و يتباهى به هو (الإحساس) و إن شئت فقل (التحسس). الحق يجب أن يُقال إن الروائي لن يستطيع أن يكون روائياً دون حس ٍمرهف، دون فيضٍ روحاني وكأنه فيض مستمد من الخيوط التي تربط بين الأرض و السماء، أو التي تربط بين الخالق الأزلي والمخلوق الوقتي. وكأني أود القول إن الروائي إنسان له ضمير حي وحيوي، لا يعتمد على حاسة واحدة، بل له العديد العديد من الحواس، فتراه يعطينا ما لا نستطيع أن نعطيه، يمنحنا ومضات تنير لنا دواخلنا المظلمة، يهيج فينا بحورٍ راكدة و كأنها متعطشة لمن يحركها فتنشط و تظهر وجهاً غير معهود. يستطيع الروائي الذكي أن يُفهمنا ما لا نفهم، ويُغير مفاهيمنا التي كونناها بتراكمات العديد من السنين، يستطيع أن ينطق الذي لا يُنطق و يُسكت الذي لا يستطيع السكوت، يستطيع أن يقول لنا وعنا كل ما يود، إرتضيناه أو أبينا، ولكن كل ذلك دون أن يحسسنا بأننا أقل منه شأناً أو هو أبلغ منا شأناً. الرواية الكردية منذ أن بدأت في منتصف القرن العشرين تسير بخطوات متلكّئة، ابتداءً من رواية (ثيَشمةرطة)1 للكاتب (رحيم قاضي) ثم رواية الكاتب (إبراهيم أحمد) باسم (مأساة شعب) وما تلاهما من محاولاتٍ محدودة ويتيمة. فإلى الآن لا نستطيع أن نفتخر برواية من روايات تلك الفترة كتبت بلغتنا الكردية العظيمة التي هي صمام أمانٍ لوحدتنا وحصن حصين لعزتنا. برغم من محاولاتٍ جادة وقيمة كرواية (سلام كردستان) لمحمد صالح سعيد 1970، (المدينة) حسين عارف1986 (الشيخة سيوى)1986 عزيز مُلا ره ش، (الذوبان) غفور صالح1988،(منبع المآسي) حسام برزنجي1988، ثم روايات الأستاذ خسروجاف العديدة (قتلوا الباشا)، (الكلب) و(السر) وروايات أخرى. أما الروايات مجتمعة التى كتبت في الستينيات والتى تلتها في السبعينيات والثمانينيات، إن جعلنا لأنفسنا مربعاً نقدياَ فضفاضاً ومن ثم حصرنا تلك الروايات في ذلك المربع النقدي نرى هذه الروايات كلاً وجزءاً، لن تكون في مأمن النقد البناء، بل تكون في ضيق بالغ الحرج، دون أن ننسى القول إنها كانت محاولاتٍ مهمة ليس لأنها كتبت بطريقة وفلسفة مهمة، بل كي تكون مرحلة بدائية في (اللغة- التقنية-الواقعية-الفلسفة) ليس إلا. ثم إننا لا يجب أن ننسى أن النصوص الروائية لها صلة وطيدة بالوقت الذي تكتب فيه، وعليه لا يمكننا أن نحاسب تلك الروايات في إطار النظريات النقدية الحديثة التي تتفنن بالنقد الدقيق الثقيل، فإذا نقدنا علينا أن ننقد دون أن ننسى الظروف والبيئة التي كتبت فيهما الرواية. في تلك المرحلة كانت لغة الكتابة الروائية الكوردية بسيطة وبعيدة عن المحاولات التي تجعل القارئ يتفاجأ بمصطلح جديد، أما التقنية التي في إحدى تعاريفها هي: كيفية كتابة الرواية ونسجها نسجاً محكماً. فلم نرى من روايات تلك العقود المذكورة شيئاً من التقنية الجديدة أو حتى المحكمة، بل تدور في فلك محاكاة الرواية الأجنبية ولكن بطريقة غير موفقة، في روايات السبعينيات كانت الواقعية فيها ذذات نسبة أعلى مقارنة مع الستينيات، ولعل السبب يرجع لإتفاقية آذار التي اُبرمت بين الحكومة العراقية والمقاومة الكردية وضمنت لوقتٍ محدود شيئاً من الحرية، كون الواقعية في الكتابة لا تنفك من فضاءٍ حر وآمن ولا تعطى بدونها. ولكن الفلسفة في العقود الثلاثة لم تكن سوى استنساخ للفلسفة الأجنبية بالأخص السوفيتية (آنذاك)، والافكار محدودة وسطحية لا ترقى حتى لضرورة كتابة الرواية عنها، لا نرى توقعاتٍ معينة و رصينة فيما تخص المستقبل، كما ليست للمرأة حصة ما كإنسانة ثم كمرأة لها همومها و تطلعاتها بعيداً عن الرجل، و لا نرى مشهداً أو نصا يبدي لنا أكثر من معنى أو أكثر من وجهة نظر، أو وجهتين متضادتين، حتى نضطر أن نفهم النص كما هو مكتوب ببساطة أو كحدٍ أعلى بتعقيد، بمعنى آخر الكاتب لا يستطيع أن يجبر القارئ كي يتمعن كثيراً، أو يفكر بعمق، أو يسأل أسئلة متنوعة عن حالة أو فكرة أو شخصية متناولة، فأنت تقرأ روايات تلك السنوات لا تحس بفلسفة عميقة و متجذرة ونابعة من الفهم المحلي، فالمجتمع البسيط لا يعني إنه يحتاج فلسفة بسيطة متناولة و مستهلكة، بل إن المجتمع البسيط- على فرض إن مجتمعنا حينها كان بسيطاً- أكثر قدرة و تقبل للأفكار العمقية والمؤثرة كونه يملك خامة عقلية و إدراك غير مُهلَكْ. و إن كنت مطلعاً على روايات عربية و أجنبية ترى إن روايات تلك الفترات تود أن تسير على منوالهم، والويل للكاتب الذي يقلد كاتباً آخر في العمق وفلسفة النص والكتابة ككل، لانه دون أن يعلم، بخنجر غيره يقتل نفسه دون هوادة، أو على الاقل يقتل روايته المتناولة، لان فلسفة الكاتب لا تأتي لحظياً فإنها مرتبطة بتاريخ الكاتب نفسه و طريقة حياته ومستوى تفكيره ونظرته للحياة والمجتمع الذي يتناوله ومدى فهمه للواقع الذي يريد أن يعكسه ومن ثم ماذا يريد أن يقول دون أن يضيع نصاً من النصوص التي يكتبها، هل فلسفته النصية وليست الروائية، سطحية؟ وهل يرمي بفلسفة النص فلسفة الرواية ككل؟ وكيف ينسج بين تلك الفلسفات و ينطقها بإسلوب بارع؟ كل هذه لم تكن في روايات تلكم العقود بمأمن. بشكل عام الروايات الكردية المكتوبة في تلك العقود الثلاثة، بالرغم من استخدامها المجرد لللغة الكوردية بنوع من الوفاء وإحياء التعابير الانسانية المكبوتة، كلها مجتمعة و فرادى لا تمتلك رؤيا خاصة ومتفردة حول نظرتها للحياة أو حتى للأشياء بعضاً عن بعض، إضافة إلى ذلك ترى الافكار بليدة و ليست فيها شيئاً من التجديد و الأسبقية أو حتى نوع من التأويل الأدبي المحض في إطارٍ روائي قويم.

ـــــــــــــــــــــــ - اسم حركي يطلق على المقاتل الكردي، معناه (الفدائي)الذي يتحدى الموت أو الذي لا يحسب للموت حساباً.

كاتب ومترجم من كردستان العراق

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم