يعتقد الروائي المصري حمدي أبو جليل أنّ على الكاتب أن يكتب عما يعرفه فقط، ومن ثم فإن الكتابة الحقيقية من وجهة نظره هي التي تنبني على واقع عاشه الكاتب وخبر دهاليزه وأسراره، وعرف كيف يقدمه للقارئ من دون زخارف أو طنطنة. ومن هنا كتب أبو جليل روايته «الفاعل» الحائزة «جائزة نجيب محفوظ»، والتي صدرت بترجمة إنكليزية أنجزها روبيان موجر بعنوان «كلب بلا ذيل» (منشورات الجامعة الأميركية في القاهرة).

لا تمثل هذه الرواية اختلافاً كبيراً عن روايته الأولى «لصوص متقاعدون» من حيث الأجواء والأماكن والشخوص وما تؤكدان عليه من عقيدة أدبية راسخة مفادها أنّ الكتابة ينبغي أن تكون عن عالم المهمشين الذين خرج الكاتب من بينهم، لا عما سوف يتخيله عن هذا العالم أو أي عوالم أخرى. ولكن على رغم تلاقي الروايتين في معظم التقنيات الفنية، يبقى الاختلاف واضحاً بينهما. فالرواية الأولى ترتكز على حبكة صريحة تقوم بوظيفة دمج الأحداث والأزمنة وربطها، وإن كانت غير بالغة الإتقان في كثير من الأحيان، وكأنّ الكاتب كان يمرّن نفسه على الإطاحة بتلك الحبكة في إبداعاته التالية. وهو ما حققه في «الفاعل»، بحيث نجد الشخصيات، على رغم كثرتها، غير متنامية تماماً، وكأن الكاتب يريد أيضاً أن يصل بحالة التمرّد الفني إلى أعلى مستوياته. وقادت ثورة الكاتب على الحبكة في روايته «الفاعل» إلى تفتيت الشكل الروائي برمته، فانعكس ما في الواقع على نمط الكتابة، لجهة رفض صقل العالم وتزيينه، ومن ثم رفض الانصياع لقانون السوق، ما أنتج سرداً ينهك المتلقي داخل متاهات لا فكاك منها. «الفاعل»، هي أقرب إلى سيرة ذاتية تصوّر تكوين كاتب بين التحقق والإحباط، فلا تتيح له طفولته البدوية ومشقات نشأته الجافة في الصحراء القفر إلا القليل من الوسائل في سبيل تحقيق هدفه المنشود في أن يصير كاتباً كبيراً. وبذلك تكون الرواية – من دون اللجوء إلى تجريدات فلسفية أو تنظيرات نقدية – قادرة على النفاذ بعمق إلى اللحظة التاريخية المشتهاة، ومن ثم الوصول إلى قاع العقل الباطن للإنسان في ذلك المناخ الاجتماعي الملوث. إنها محاولة سردية تستجيب لآليات حكي السيرة في محاولة جادة لتأطير ‘’حدوتة’’ بإعطائها وهم مرجعية المعيش اليومي. لذلك يبدو النص الذي ينسال من ‘’الفاعل’’ أو «الفواعلي»، بلهجة العامة في مصر، هو ذلك الأجير شديد السذاجة ولكنه يأخذك – من دون أن تشعر - إلى عالم تعتقد أنك تعرفه. لكنّ هذا ‘’الثرثار’’، أو الراوي بصيغة «الأنا»، لا يكف عن تلوين حكاياته الغارقة في البساطة، واستعادة بعض فقراتها بتكرار حاذق لا يدعو أبداً إلى الملل. يفصح هذا العمل عن وعي المؤلف بمنجز الرواية والسيرة الذاتية الجمالي، ويتبدى هذا في عدد من التقنيات وأداءات الصياغة التي أثمرت بنية روائية موفقة. وبيان ذلك أن المؤلف أقام عمارة عمله على بنيات قصيرة مكثفة تحمل كل واحدة منها عنواناً يمهد إلى نقلة أساسية في الزمان والمكان. ولا شك في أن كثرة البنى والانتقالات منحت العمل مرونة سردية وتوهجاً في بناء الشخصيات والأحداث. ويقوم هذا كله على قاعدة من التشكيل اللغوي الجامع بين الفصحى والعامية أو ما يسمى بالتضمين، والذي يعطي بدوره جانباً من سخرية ناعمة لا تجرح. جاءت شخصيات الرواية من فئة «الفواعلية» الوافدين من القرى إلى العاصمة المخيفة (القاهرة)، تلك التي تظهر فيها أزمة مثقف وكاتب (فاز في ما بعد بجائزة نجيب محفوظ) وهو يعمل مساعد عامل بناء، جمع في حياته متناقضات شتى وطفولة شرسة، لكنه تصالح معها من أجل لقمة العيش. فالبطل الراوي شاب بدوي من إحدى القرى النائية في جنوب محافظة الفيوم، وهو نفسه الكاتب الذي يحمل ذلك الاسم «حمدي أبو حامد عيسى صقر أبو جليل». وبناءً على ما تقدم، وضع بعض النقاد هذا العمل ضمن فن رواية السيرة الذاتية، غير أن الكاتب ربما لم يرض بهذا التوصيف لروايته فهو – كما يقول - لم يركن إلى المتعارف عليه من كتابة السيرة الذاتية، ولم يتبع في الوقت ذاته ما جرى عليه العرف النقدي في كتابة الرواية من شخصيات متنامية، كما لم يلتزم أصول الحبكة الروائية من بداية وعقدة وحل، إنما اعتمد على مشاهدة منفصلة من يوميات «عامل البناء المثقف»، وكل مشهد ينقل حالة مختلفة في الزمان والمكان والشخوص مما جعلنا نتعامل مع هذه الرواية باعتبارها قصصاً قصيرة لا رابط بينها. يرسم أبو جليل صورة دقيقة وصادقة لحياة «الفواعلي» وعلاقاته بأصدقائه، ومغامراته النسائية وكذلك خط سير العمل، في رواية مراوغة ومربكة، وعصية، في الوقت عينه، على التصنيف النهائي.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم