الزمان : العام 1906 المكان : باريس شارع لوغوف الطفل الذي رحل والده قبل عام ، كان موته”أكبر ضربة حظ. لم يكن عليّ أن أنساه”. هكذا يخبرنا في كتابه الكلمات ، والذي فيه ايضا لاينسى ان يسخر من فرويد ومقولته الشهيرة من ان الطفولة تقرر مصير الفرد ، فقد كان طفلا خجولاً ، وكانت امه تُصر على ان تلبسه ثياب البنات ، لكنه تعلق بجده : ” انه صاحب التأثير الاكبر على نشأتي".

في واحد من اجمل كتبه " الكلمات " يكتب سارتر تعريفا لطفولته :" كنت ذلك الوحش الذي يصنعه الكبار وهم آسفون كل الأسف " . في هذا الكتاب الذي اسماه سيرة ذاتية يقسم سارتر حياته مثل فصول الكتاب الى قسمين أساسيين، الاول بعنوان " القراءة " والثاني " الكتابة" ويفسر لنا في الصفحات الاولى من السيرة كيف انه في طفولته وجد نفسه محاطاً بالكتب، يقرأها وقد لا يفهمها،: " بدأتُ حياتي، كما سأنهيها على الأرجح: وسط الكتب، ففي مكتب جدي، كان ثمة كتب في كل زاوية ومكان. وكان من الممنوع على أي كان ان يدنو من المكتب ، في ذلك الحين لم أكن بعد، قد تعلمت القراءة، لكنني تعلمت تبجيل الكتب. كنت أراها مثل الحجارة المصقولة المرصوصة، سواء صُفّت جالسة او منحنية. مكدسة الى بعضها البعض فوق رفوف المكتبة، أو موضوعة بكل نبل بعيدة من بعضها البعض. كان يخالجني شعور غامر بأن ازدهار عائلتنا معلق بها». عاش مراهقة مؤلمة بسبب سخرية الفتيات من قبحه :" في مراهقتي كنت أعاني بسبب قبحي وهذا ما جعلني أتألم ، كان عليّ ان احرر نفسي تماما ، لان ذلك ضعف ينبغي على اي شخص يعرف قوته " ويخبر ميرلوبونتي ذات يوم : " لم استطع اغواء النساء بمزاياي الجسدية ، لكني اغويتهن بالكلمات " بعد سنوات ستقول عنه سيمون دي بوفوار : " انه اكبر انجاز في حياتي " كان اصغر من تقدم لنيل شهادة الفلسفة ، وحين حاصره الاساتذة بالاسئلة سخر منهم وهو يتطلع من النافذة: " استطيع ان اجادل نيتشه واعلمه كيف يمكن للانسان ان يكون حرا باختياره " تتحققت نبوئته ويصبح اشهر فلاسفة القرن العشرين ، لم تجتمع لمفكر غيره الشهرة وقوة التأثير والتنوع في الكتابة .. اصبحت الوجودية معلماً من معالم العصر الحديث ، تسربت من الكتب لتدخل الى المقاهي وشاشات السينما والنوادي الليلية ، وتفشت فلسفته حتى اعتقد اصحاب ماركس ان الرجل سيسحب البساط من صاحب رأس المال ، مما دفع روجيه غارودي لان يكتب بعد صدور مؤلف سارتر الضخم " نقد المنطق الديالكتيكي": "يبدو هذا الكتاب اشبه بالتحدي لموقف الماركسية من الفلسفات الاخرى " وبرغم العديد من الكتب التي صنفت سارتر باعتباره فيلسوف الوجودية ، إلا ان الرجل وهو الذي كتب أصعب كتاباً في الفلسفة " الوجود والعدم " يرفض ان يكون فيلسوفا ، فقد ظل الى اللحظة الاخيرة من حياته يعتبر نفسه مفكرا ويعتبر الوجودية فكرة كما اخبرنا في اخر كتبه ” نقد المنطق الديالكتيكي ” عن الماركسية التي توقفت والتي سيعاد احياؤها من خلال الوجودية .. وكان سارتر قد أصدر من قبل في سلسلة كتبه " مواقف " كتابا بعنوان المادية والثورة – سلسلة مواقف قدمتها دار الاداب مترجمة الى العربية بسبعة اجزاء وهذا الجزء كان من ترجمة واحدا من ابرز اساتذة الفلسفة في الوطن العربي عبد الفتاح الديدي –تحدث فيه عن الخطر الذي اصاب الماركسية والذي اسماه الكسل الفكري وهو يعترض على المقولة التي يؤكد اصحابها ان الماركسية قد اكتملت ولم يعد هناك من جديد يكتشف ، حيث يرى ان الفكر هو حالة متحركة لاتقبل السكون ، وانها الماركسية حين تتعرض للتثبيت فانها تصبح جامدة .. ويرى سارتر في الاحزاب الشيوعية انها انكرت الماركسية لأن الماركسية منذ نشاتها لم تتقولب او تتجمد ، لكنها نجحت في تفسير الظواهر الانسانية والاجتماعية والتاريخ ، فاذا بالماركسيين حسب قوله يحاولون انكار كل تقدم ويتساءل سارتر ما معنى هذا الجمود الفكري ؟ ليصل الى نتيجة يقول فيها : " ان الماركسيين اكتشفوا صبيحة عام 1956 انهم لم يكونوا ماركسيين قط بل كانوا ستالينيين فقط ، ونراه يشن هجوما كبيرا على افكار ستالين التي قال انها تلاعبت بفكر نبيل مثل الفكر الماركسي ، فيصدر كتابه الشهير شبح ستالين .. وفي هذا الكتاب يحاول ان ينازع الماركسيين على تراث ماركس ، فهو يؤمن بان الوجودية ظهرت واستمرت لان الماركسيين جمدوا الماركسية ، والغريب ان سارتر في حوار اجراه معه موريس كرانستون -ترجمه الى العربية احدى دعاة الفلسفة الوجودية في العالم العربي مجاهد عبد المنعم مجاهد – يقول لمحاوره انه سنة 1925 أخذ في قراءة كتاب رأس المال لماركس انذاك ولم يفهم منه شيئا، فكرر المحاولة بعد عام لأن الذي كان يعنيه ليست قراءة ماركس وانما فهمه " . في مسرحيته جلسة سرية يقول سارتر على لسان غارسيان :" لقد تركت حياتي في ايديهم " .. لم يترك سارتر حياته في ايدي قراء الفلسفة ومحبي الادب فقط ، لكنه ترك لهم عالما رحبا من الكلمات والافكار والمعارك السياسية والاهم النضال في سبيل الفكرة ، اليس هو القائل: "كل فكرة صحيحة هي انتصار " ************ كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين اعتقدت انها وقعت في الحب ، الحبيب ابن عمها جاك الذي كان له الفضل الاول في دخولها عالم الادب ، وطوال ثلاثة اعوام اصبح جاك الرجل الاول في حياتها ، وتكتب في مذكرات فتاة رصينة انها وضعت مخططا لحياتها المستقبلية ، ستتزوج من جاك وتحصل على شهادة الاستاذية : " كنت اتحدث بغموض عن الحب ، فانا اعرف الثمن ، انا عقلانية جدا، ومتطلبة جدا ، وكان جاك بالنسبة لي مطلبا شخصيا ". لكنها تكتشف بعد ثلاث اعوام من قصة الحب الخيالية ان ابن عمها سيتزوج من بامرأة أخرى. :" عندها فقط ايقنت انه ليس بامكان اي شخص ان يكون مسؤولا عني على نحو كامل ، لا أحد يعرفني او يحبني تماما ، ليس لدي سوى نفسي فقط " في هذه الأثناء وفي منتصف عام 1928 يظهر سارتر في حياتها ، كانت تجلس في المكتبة الوطنية تقلب صفحات كتاب عن هيدجر ، فلمحته يدخل راقبته وهو يخلع معطفه ويجلس ليعمل بصمت ، ولما حان وقت الغذاء رأته ينهض تاركا كتبه وراءه وكعادتها تناولت دوبوفوار سندويجا في مقهى المكتبة ، رماها سارتر بابتسامة غامضة ، وافسح لها مكانا لتجلس بجانبه كانما خطط لهذا اللقاء الذي سيستمر حتى نهاية العمر .. تحدثا عن هيدجر وكانت . بعد ايام قليلة استحوذ سارتر عليها واحكم السيطرة على تفكيرها تكتب لصديقتها الحميمة زازا :" أعرف هذا الشاب منذ ثلاثة عشر يوماً وقد جال في غياهبي، وصار يتكهّن بأفعالي فإمتلكني. يحتاج ذهني إلى حضوره وينتابني الانفعال أمام تعاطفه. الشك والاضطراب والنشوة. أريد أن يرغمني على أن أصير شخصاً حقيقياً ويعتريني الخوف". ************ في ذلك الوقت كان سارتر اقرب ما يكون فوضويا منه ان يكون ثوريا ، فكان يرى المجتمع مقرفا ، في مقهى المكتبة عرضت دو بوفوار نظرتها الى الحياة ، والتي سمتها بالتعددية ، ضحك الفيلسوف الشاب وهو يستمع الى الفتاة " الساذجة " تحاول استعراض قراءتها ، لم تمض ساعات حتى اعترفت بهزيمتها امامه ، فقد اكتشفت ان معظم حججها وافكارها كانت مضطربة :" لاحظت انني لم اعد متأكدة مما افكر فيه بل وحتى من انني افكر " خلال اسبوعين كان سارتر وبوفوار نادرا ما يفترقان ، في ذلك الحين كان سارتر يزودها بالكتب التي تقرأها ، وقد كتبت بوفوار في يومياتها :" ما اضيق عالمي الصغير اذا ما قيس بعالم سارتر الغني " أتت بوفوار من عالم كانت المرأة فيه مقيدة ، وكانت النساء والرجال يقطنون عالمين منفصلين بحدة ، كان ينتظر من المرأة ان تذهب كل يوم أحد الى الكنيسة ، لم يكن بمقدورها الجلوس بمفردها في مقهى ، كان ثمة أوقات وصفت فيها بوفوار تمردها على تقاليد عائلتها بانه معجزة ، وقد أدركت ان الحب والحرية بالنسبة للنساء لا تنال إلا بثمن . في تموز من عام 1929 ظهرت نتائج الجامعة لقد تنافس واحد وعشرين طالبا في الامتحانات النهائية ، نجح منهم ثلاثة عشر كانت المرتبة الاولى من نصيب الطالب جان بول سارتر ، تلته سيمون دي بوفوار وكان ذلك امرا استثنائيا فهذه المرة الاولى التي تحصل فيها فتاة على أعلى درجات الفلسفة . كانت في الحادية والعشرين من عمرها وبهذا تكون اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية ، فقد انهت دراسة منهاج الفلسفة في ثلاث سنوات فقط ، اما سارتر فقد تطلب منه ذلك سبع سنوات ، وقد تجادل اعضاء لجنة الامتحانات طويلا حول منح الجائزة الاولى، لسارتر ام بوفوار ، لكنهم في النهاية قرروا منحها لسارتر في عام 1930 تكتب في دفتر يومياتها ملاحظات تبدو من خلالها انها تعاني اضطراب عاطفي : "لا استطيع أن اتصالح مع الحياة ان لم يكن هناك هدف في حياتي ، يتحدث معي سارتر كما لو انه يتحدث الى فتاة صغيرة ..لقد فقدت كبريائي وذلك يعني أني فقدت كل شيء". في البداية كانت اشبه بالمسحورة لم تصدق انها وقعت في حب الرجل المتفوق ، الذي يعد الالمع بين اصدقائه ولم تكن تميل الى التذمر من سلوكه الغريب وقذارة ملابسه ، فمنذ بداية علاقتهما بذلت جهدا كبيرا لترى الامور من منظور سارتر، وذلك بسبب شعورها بانها تدين له بكل شيء وايضا بسبب انها كانت على قناعة بانها تحبه اكثر مما يحبها . كل شيء تآمر لجعلها تسقط في فخ مفهومه للعشق ، ونجدها بعد عشرين عاما تخصص في كتابها " الجنس الاخر " فصلا يدور حول المرأة التي ترى ان الحب هو الخلاص :" تحاول المرأة العاشقة ان ترى بعينيه ، تقرأ الكتب التي يقرأها ، تفضل الصور والموسيقى التي يفضلها ، تهتم فقط بالمناظر التي تراها معه ، بالافكار التي تنبثق منه ، تتبنى صداقاته وعداواته ووجهات نظره ، وحين تسأل نفسها تحاول ان تسمع اجاباته .. سعادة المرأة العاشقة القصوى هي ان ينظر اليها عشيقها كجزء منه ، وحين يقول " نحن " فهذا يعني انها متحدة ومتماهية معه ، تشاركه منزلته وتسود معه على سائر الناس ، ولا تتعب ابداً من أن تكرر الى حد الافراط هذه الـ نحن المبهجة " ************ ولدت سيمون دو بوفوار لعائلة غنية جدا ، الاب عاشق للمسرح والادب والتحف الثمينة، والام تنتسب الى طبقة النبلاء وتصر على تربية بناتها بطريقة محافظة جدا وتخبرنا في روايتها " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها ، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. وأمام من يعرفونها، أو لا يعرفونها كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالالتزام نحو العائلة :" في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ، وكنت يسارية لفظا ويمينة فعلا ، " . خلال سنواتهما الاولى ، لم يهتم سارتر ورفيقته الصغيرة بالأحداث السياسية الكبيرة التي هزت العالم في ذلك الوقت مثل صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والحرب الأهلية التي اندلعت في إسبانيا ، فقد كانت الفلسفة كل ما يشغلهما. وكان طموح كل واحد منهما كتابة أعمال تخرج عن المألوف، وتنسف ما متعارف عليه من افكار . وكان سارتر قد أصدر في ذلك الوقت عملين جلبا له اهتمام النقاد والقراء هما رواية "الغثيان"، والمجموعة القصصية "الجدار". أما سيمون دو بوفوار فلم تكن قد أصدرت أي شيء. ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية ، طلب سارتر الى التجنيد ليرسل إلى الجبهة. أما زميلته فقد واصلت تدريس الفلسفة في المعاهد الثانويّة، مهتمة، وشهدت فترة الأربعينيات من القرن المنصرم ذروة إنتاج دو بوفوار الأدبي والفلسفي، بدءاً من أولى رواياتها مذكرات فتاة رصينة واكتمالاً مع صدور كتابها المهم " الجنس الاخر عام 1941 ، وقد أثار الكتاب في حينه ضجة كبرى في فرنسا وخارجها وانتقده الكثير من الأدباء ومنهم احد أصدقائها الحميمين "ميرلو بونتي" الذي كتب في هجائه يقول : " كتاب يتسم بعدم اللياقة وبمخالفة الآداب العامة وبالوقاحة الصريحة"، واعتبره الحزب الشيوعي الفرنسي بأنه "إهانة للمرأة العاملة" فيما حرمته الكنيسة في روما، لكن سيمون دو بوفوار صمدت أمام جميع هذه الانتقادات لأنها صممت على خلق وعي ثقافي جديد في قضية المرأة اذ عرضت أوضاع المرأة من النواحي التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية في القرن العشرين. حيث كانت المرأة تعاني اضطهاد الرجل الذي يتحول بفضل سطوته العاطفية عليها من إنسان بسيط الى رمز يشبه الآلهة. وتتساءل بوفوار إذا كان تاريخ النساء من صنع الرجال، فهل يعني ذلك أن المرأة هي التي سمحت للرجل بأن يعتبرها جنساً آخر؟ أم ان المجتمع هو الذي حكم عليها لتكون جنسا آخر؟ تابعة خاضعة للرجل؟ وهل اختارت أن تكون في قفص عوضا عن أن تكون طائرا طليقا؟ وتضيف : "إن المجتمع هو الذي ساهم في خلق الصورة النمطية للمرأة لتكون أنثى، خاضعة للرجل، صنعها المجتمع لتكون جنسا آخر، ألغى شخصيتها وطمس إنسانيتها، واعتبرها أنثى بالمفهوم المطلق جسدا كمتاع، حسب أهوائه، لا يمكن للإنسان العاقل أن يختار العيش في قفص، إلا إذا حكمت عليه ظروف الحياة أن يعيش مقيدا بالأغلال " عندما توفيت سيمون دي بوفوار عام 86 قالت الفيلسوفة اليزابيث بادنتر: "يا نساء العالم، انتن مدينات بكل شيء لسيمون"، فبهذه الكلمة ودعت المرأة التي حرضت النساء على المطالبة بكل حقوقها لأنها "عالم آخر"وترفض ان تكون جزءاً تابعاً لعالم الرجل. في دفتر يومياتها تكتب دي بوفوار :" لقد اصبح سارتر كل عالمي ، وبفضله اصبحت اكثر فتنة حتى اني نسيت نفسي". عن صحيفة المدى

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم