منذ نشر الناقد العربي سعيد يقطين مقالته الأخيرة، التي حملت عنوان "البدانة الروائية"، تتباين الردود حول الاتفاق معه والاختلاف بذات الدرجة تقريبا، وتلك بالتأكيد ظاهرة صحية في العمل النقدي. والاختلاف والاتفاق حول رؤية نقدية ما ربما هو ما يسعى إليه الناقد عادة، فهو لا يفرض رأيا بقدر ما يثيرنا كي نتفاعل معه. وإن لم يكن للناقد سعيد يقطين من مقالته سوى المصطلح الجميل الذي أطلقه لكفاه. ولأنني سأختلف معه هنا كروائي وليس كقارئ، حتى لا أدعي أنني ناقد، فهذا الاختلاف لا يفسد حقيقة أن الناقد يقطين هو أحد أعلام النقد العربي الحديث اليوم، ونحن بأمس الحاجة إليه ولأمثاله حين كثرت القراءات غير المتخصصة والانطباعية في الأغلب، والتي واكبت انتشار الرواية، وهي قراءات استسهلت "النقد"، كما استسهل الكتاب الرواية. لا أعتقد، ولا أجزم هنا، بأن هناك روائيا ناجحا يمتلك البصيرة المسبقة لحجم روايته وتحديد بدانتها أو "هزالها"، إذا عكسنا المصطلح الذي طرحه الناقد. ودليلنا على ذلك هو النظر إلى مجموع أعمال روائي ما، سنجدها بالتأكيد تتباين في أحجامها كما تقتضي ضرورة القص. العمل الروائي لمن مارسه هو عملية غير مسبقة الترتيب، ولا يستطيع الروائي نفسه التكهن بما ستكون عليه الأحداث، ولا تطور الشخصيات ونموها أثناء ميكانيكية التأليف. كتابة الرواية عملية ديناميكية يمكن أن تبدأ بطريق ما، وتنتهي بأخرى لم تكن أكيدة في ذهن الروائي، وهو يمارس فعل الكتابة لسنوات تتغير فيها ذهنية التفكير وطرق التعبير. الذي يساعد على ذلك هو الجنس الأدبي نفسه الذي يستخدمه الروائي، وربما هو الجنس الوحيد الذي يستوعب الأجناس الأخرى، فهو يستوعب القصيدة والتشكيل والحوار المسرحي، وهو أكثر الأعمال عرضة للاستطراد والاختزال. وهو أيضا يستوعب أو يحتمل التجزؤ في ثلاثيات وخماسيات يستدعيها المشهد الروائي واختلاف الحبكات الروائية والشخصيات في وحدة المكان الروائي. كما في أعمال عبدالرحمن منيف أو بول أوستر وحتى في أعمال فولكنر التي اتخذ لها اسم مكان مفترض، وكرر شخصيات رواياته ال كومبسون الذين كانوا أبطال أعماله "شمس ذاك المساء"، "الصخب والعنف" و"أبسالوم أبسالوم" التي تبدو كسلسلة وإن لم يصرح بذلك. في مرحلة من المراحل كان يضايقني كثيرا اعتماد المترجم العربي على اختزال القصص الغربية وتقديمها للقارئ العربي بصورة مهشمة غاب عنها الكثير من التفاصيل المهمة التي قدمها الروائي كجهد كبير، كما في الجريمة والعقاب والدون الهادئ وموبي دك، ويعتمد الناشر في ذلك على فكرة أن القارئ العربي لا يحتمل قراءة عمل ضخم. وهي حالة تختلف عند القارئ الغربي، حيث تقرأ الناشئة روايات تتجاوز الثلاثمئة صفحة في المناهج وخارجها. وأثبت القارئ اليوم خلاف ذلك، واستعداده الذهني والزمني لقراءة أعمال عربية وأجنبية طويلة نوعا ما. السؤال الذي يجب أن نبحث عنه هو: هل البدانة أو الهزال الروائي الطريق الأهم للنقد الأدبي؟ بعبارة أخرى ما العلاقة بين حجم الرواية واتقانها؟ لا علاقة أبدا. النص المتقن والجيد يبقى متقنا وجيدا، وان ضخم حجمه، والنص الهزيل يبقى هزيلا مهما بلغ "هزاله". المصدر: الجريدة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم