"الماضي"

عشت طفولة مشردة. كنا ننتقل من مكان الى آخر باستمرار، كل العائلة، في كل هولندا. غالباً ما كنا نغادر المكان بعد سنة أو سنتين، ثلاثة. ولمرة واحدة غادرنا المكان بعد تسعة أشهر. كل هذا كان بسبب وظيفة والدي الذي كان فيزيائياً. هذا التنقل المستمر جعلني أشعر بأني بلا مسكن. لا أعرف أي بيت يجب أن أسميه منزلي القديم، هناك الكثير من المنازل. كنت البنت الوحيدة وأبي وجه كل اهتمامه نحوي، وليس على إخوتي الثلاثة. كان يشجعني على التعليم. أظن أن هذا نتيجة نشأته مع أم ذكية بشكل استثنائي ــ كانت تريد أن تصبح كاتبة ــ وخمسة إخوة. كان مسروراً جداً عندما أصبح أباً لبنت. في عطلة نهاية الاسبوع كان يجري معي عمليات حسابية موسعة. وعندما كبرت أهداني كتباً لفلاسفة مثل هايدغر وسارتر. أظن أن سعة اطلاعي قد تطورت بفضل أبي. أمي وأبي كانا صارمين في تربيتنا. لا يسمحان لنا باللعب في الخارج في يوم الأحد. كان يجب علينا الذهاب الى الكنيسة وأن نجثو على ركبتينا قبل النوم. شعرت أني لا أنتمي الى أهلي وأنشأت عالمي الخاص من خلال الغوص باستمرار في الكتب. كنت أجلس دائماً في زاوية ومعي كتاب. كنت أحلم بأن أصبح كاتبة ــ ربما لأن جدتي كانت تريد أن تصبح كاتبة. كطفلة كنت مجنونة بويني ذا پوه. وفي الحقيقة، لازلت مجنونة به حتى الآن. تلك الفكاهة اللذيذة. الأسئلة الفلسفية الصغيرة القابعة في تلك القصص. رغبة ذا پوه في العسل، وتهوره في أكل وعاء كامل من العسل في كهف أحد الحيوانات المفترسة، وتفكيره بعد ذلك في كيفية الخروج من هذا الكهف مع بطنه الضخمة. إلى جانب ذلك، طورت عادة الغناء طوال اليوم. كانت هذه طريقة تساعدني على التحمل. إذا كان يجب عليك الانتقال من مكان الى آخر باستمرار، لن تشعر بالأمان. عن طريق الغناء خلقت عالمي الخاص، كما هو الحال مع الكتب. عالم باقٍ، حتى مع الانتقال الى مكان آخر. رغم طفولتي غير المستقرة كان لدي صديقة منذ الطفولة، وظلت صداقتنا دائماً. كتبنا لبعضنا الكثير من الرسائل، ملأت حقائب السفر. عندما كنا نبيت عند بعضنا، نجري حوارات طويلة عن الكيفية التي نشأ بها الكون. هل هناك خالق للكون أم أنه تكون من تلقاء نفسه؟ كنا نتساءل حول هذا الأمر. بعد الكثير من التنقلات قررت الذهاب الى المدرسة عند الزاوية. مدرسة ثانوية كاثوليكية، لهذا ستظن أن والديّ لن يسمحا لي بذلك. لكني استطعت الحصول على موافقتهما. في تلك المدرسة ابتعدت عن ديني. زملائي كانوا يوجهون لي اسئلة حرجة. هل أنتِ على يقين من أن الرب موجود؟ لماذا عليه أن يكون متسلطاً؟ و: لماذا لا تتعاملين إلا مع المتدينين مثلك؟. وجهتُ هذه الأسئلة بدوري الى أبي، وكانت نتيجتها نقاشات ساخنة. منذ الخامسة عشرة من عمري وأنا وأبي في نقاش مستمر. حول كل شيء. أرهقت هذه النقاشات باقي العائلة. في السابعة عشرة من عمري قرأت كتب سيمون دو بوفوار. كانت رائعة. في ذلك الوقت كانت دراسة البنت شيئاً استثنائيّاً، لكن دو بوفوار أثبتت: أن المرأة تستطيع أن تكون فيلسوفة وكاتبة عالمية مشهورة. حثت النساء على الاستقلال المادي وأيضاً على مجرد تناول تفاحة في الشارع إذا كن يرغبن في ذلك. حرية تناول الطعام في الشارع بدلاً من أن تسير في الشارع مع عربة الأطفال وأكياس التسوق ــ كان هذا ملهماً لي. أخيراً، اخترت دراسة الطب. كان هذا اختياراً وسطياً بين رغبة أبي في أن أدرس الفيزياء ورغبة أمي التي درست التمريض. كنت مثالية، كنت أريد إصلاح العالم. ما أثر في مشاعري هو أني كطبيبة أستطيع مساعدة الناس بشكل أفضل، وربما أجعلهم سعداء. كان أبي سعيداً جداً بخروجي من المنزل. لأني لم أعد مؤمنة، هناك تباعد نشأ فيما بيننا. لكنه ظل فخوراً بي دائماً.

"الحاضر"

تعرفت على الجانب الآخر من المجتمع وذلك بعد دراستي الطب عملت منسقة في Amsterdamse junkiebond (أو جمعية أمستردام في بحوث وعلاج المخدرات المحظورة)، وهي جمعية مختصة في بحوث وعلاج الإدمان على المخدرات. عُينت هناك مباشرة عندما كان يجب علي الانتظار سنة قبل البدء في دراسة تخصص طبيب العائلة. كنت أريد الاستفادة من وقت الانتظار هذا بشكل جيد. كان ذلك في الثمانينات والفكرة من وراء الجمعية كانت ليس وضع المدمن في الرعاية وإنما البحث في ما يمكن أن يساعده على تحقيق ذاته من جديد. وفي هذا محاكاة لتوجهي، كطالبة مثالية، بكل تأكيد. أصبحت هناك في مواجهة مع العنف، مع الدعارة، مع أشخاص دُمرت حياتهم بسبب الهيروين. وعندما سنحت لي الفرصة أخيراً لدراسة تخصص طبيب العائلة، أُصبت بصدمة شديدة. كنت كما لو أني جندي عاد للتو من أفغانستان ويجب عليه التكيف مع المجتمع المدني. تعودت على أشخاص يتجولون مع التهابات بكتيرية في كل جسدهم ولا يشتكون من أي شيء. وفجأة استقبل مرضى في غرفتي يقلقون لأي كحة. وجدت أن من الصعب التعامل معهم بجدية. أخيراً لم أصبح طبيبة عائلة. كان من الصعب جداً في ذلك الوقت التركيز على أن أكون طبيبة عائلة مستقلة. علاوة على ذلك، كنت رشيقة جداً لكي أصبح حامل أثناء دراستي ومع بطن ضخمة لم أتمكن من المنافسة. وفي غضون ذلك بدأت في العمل في مجال العلاج بالميثادون، خدمة تُمكن المدمنين من المساهمة في معرفة تنظيم الكثير من الأشياء. لكني فكرت: مجرد أن أكون مختصة في العلاج بالميثادون أمر ممل بالنسبة لي، يجب أن أقوم بشيء إلى جانب هذا، شيء يحفزني على الاستمرار. عندها بدأت في دراسة الفلسفة. كهواية. لكني لاحظت أثناء هذه الدراسة كم كان الامر رائعاً، أريد الاستمرار في هذا! وما جعل الأمر أكثر روعة هو شريك حياتي جان الذي كان مهتماً بالفلسفة. التقينا ببعضنا في نهاية السبعينات في مجموعة طلابية سياسية هدفها إصلاح العالم. كان يدرس العلوم السياسية في ذلك الأثناء واكتشفنا بأننا نستطيع دعم بعضنا كثيراً. كنا نتوصل باستمرار الى إثبات نظريات جديدة ونحث بعضنا على كتابة نصوص جديدة. اهتمامات جان أضافت قيمة أكبر لدراستي الفلسفة. بعد عدة أسابيع من تخرجي حصلت على وظيفة مدرس مساعد للفلسفة في جامعة نايميخين الكاثوليكية. كنت سعيدة جداً بهذه الوظيفة. وفكرت بأني سأصبح فيلسوفة حقيقية، وسأكتب. حلمي القديم عندما كنت طفلة، ظهر مرة أخرى: سأصبح كاتبة. لن أمنع حدوث هذا مرة أخرى. بعد أربع سنوات ونصف من تخرجي وُلد طفلي الثاني. أكثر ما استمتعت به هو الكتابة، اللعب مع اللغة ولاحظت أن الكتابة تمكنني من إيجاد خط تفكير على الورق. التهمت كتب الفلسفة ووجدت أسئلة عظيمة بحثت عنها في القاع. كنت منشغلة في كثير من الأحيان بفكرة مدهشة وهي أن الـ"أنا" ربما غير موجودة. نحن نظن بأننا أفراد مستقلون نستطيع إتخاذ القرارات التي تخص حياتنا، لكن هل هذا صحيح؟ ألم تتشكل أنت من طفولتك من خلال بيئتك، لغتك، ثقافتك، من خلال أشخاص التقيت بهم؟ لو تغيّرت هذه الأشياء، كنت ربما ستكون شخصاً آخر. في 2007م أصبحت مُحاضرة في الفلسفة في كلية "ده هاخسة" "كلية لاهاي". بعد سنة أصبحت أستاذة في جامعة إيراسمس في روتردام. لازلت أعمل في كلا الوظيفتين: إنه مزيج جميل. في كلية "ده هاخسة" أقف في وسط المجتمع وأسمح للطلاب الذين لا يحرصون على أي تدريب فلسفي البدء في كتابة أسئلة فلسفية معقدة. وفي الجامعة أعمل على مستوى عالٍ من الفلسفة. لأني أفكر وأجلس كثيراً، اتخذت كلباً منذ فترة. حتى أُجبر نفسي على المشي. أحتاج الى هذا حقاً، لأني أعمل أحياناً على كتاب واحد لشهور وأشعر أن جسمي يهرم بسبب الجلوس لساعات طويلة أمام الكمبيوتر. لأني عندما أبدأ في كتابة نص بسعادة، لا أستطيع التوقف بعد ذلك ابداً.

"المستقبل"

عندما سُئلت إن كنت أريد أن أصبح "مفكّر الوطن"، قلت لنفسي: أنا؟ هذا الشرف كان فوق تصوري. والمدهش هو ما يفعله هذا اللقب أيضاً. كنت أعرف سابقاً أن لقباً مثل لقب البروفيسور يجعلك معروفاً في كل مكان وأن الناس يظنون بأنك شخص مهمّ، حتى لو كنت ترتدي بنطلون جينز. هذا ينطبق على لقب مفكّر الوطن. وعليك أن تتصرّف وفقاً لهذا اللقب، رأيت الأمر مضحكاً، حتى بالنسبة لي. منحني هذا اللقب فرصاً رائعة على إثارة الاهتمام بالفلسفة لدى جمهور واسع. فجأة استضافني برنامج (العالم يدور) De Wereld Draait Door وقدمت فقرة في مهرجان Lowlands الموسيقي. في كل مكان أكون فيه أستطيع حث الناس على التفكير. المتعة العظيمة في الفلسفة هي في أنها تعلمك أن الأشياء أقل وضوحاً مما كنت تظنه من حيث المبدأ. تتعلم رؤية الثراء في الحياة، التقسيم الطبقي والتناقض. تعيد إليك الدهشة التي كان لديك في الطفولة، عندما كنت تسأل باستمرار: لكن لماذا؟ ولهذا يصبح العالم وحياتك أكثر متعة من السابق. عمري الآن ستون عاماً. لكن جدتي عاشت حتى 101 من عمرها، لهذا يبدو أن لدي الكثير من الوقت. لاحظت بطبيعة الحال أني أصبحت أكبر سناً. في السابق كان يمكنني الرقص لساعات طويلة حتى منتصف الليل، للأسف لم أعد أستطيع ذلك بعد الآن. التحقت بدروس التزلج على الجليد لخمسة وعشرين عاماً وحتى قبل عامين كنت أتقدم في سرعة ممارسة هذه الرياضة كل عام، لكني الآن مستقرة. مارست التزلج كثيراً في حياتي. في البداية مع والدي وبعد ذلك بفترة طويلة عدت لها من جديد. كان من الجميل أيضاً مشاركة الأطفال معي في دروس التزلج. ابني لازال يمارس رياضة التزلج بحماس، لهذا أذهب في كثير من الأحيان الى ملعب التزلج على الجليد. هذا يجعل الحياة لطيفة جداً. أنك دون أن تبذل الكثير من الجهد تجد عائلتك من حولك دائماً. أصدقاء لطفاء. بالنسبة لي الرياضة مرتبطة دائماً بوجود الاصدقاء والأطفال من حولي. لسنوات طويلة مارست التزلج مرتين كل أسبوع مع صديقتي المقربة. عندما توفيت العام الماضي، كنت أجد صعوبة في الذهاب الى هناك لوحدي. لحسن الحظ قالت جارتي ذات مرة: هل ترغبين في الذهاب معي الى المسبح؟ قلت: نعم! كنت بحاجة إلى هذا، سيدة لطيفة يمكنني أن أشاركها القيام بشيء جميل كل أسبوع. ومنذ ذلك الوقت وأنا أمارس السباحة معها. أرغب في الكتابة حتى موتي. ومن الأفضل العمل على كتاب كل سنتين. لدي حظ كبير بأني محاطة بأناس يدعمونني. في طفولتي كان أبي. وبعد ذلك جان. من المؤسف أن علاقتنا قد انتهت، لكنه ظل صديقاً وفياً. والآن ملهمي راينيان وأنا نجذف معاً. كنت وحدي فترة من الوقت وكتبت مقالاً عن البدايات الجديدة. سمحت له بقراءة المقال وصاح: "هذا المقال يخبّئ في طياته كتاباً!" وكتبنا هذا الكتاب معاً. وبعد فترة، وصلتني رسالة منه بالبريد الإلكتروني، كتب فيها: "عن البدايات الجديدة أتحدّث: أريد أن أبدأ معك من جديد". راينيان عمِل كصحفي وناشر لفترة طويلة ويجد قراءة كتبي ونقدها أمراً ممتعاً للغاية. أقوم بالشيء نفسه مع أعماله. وجدت فيه من جديد شريكاً حقيقياً. في الوقت الحالي أعمل على كتاب عن التخلف. سعيدة بذلك، أن تجتاحني في غرفة العليّة فكرة جديدة وأبحث فيها. أستمتع في البحث عن عبارات جميلة. وأيضاً أشعر عندما أنتهي منه بشعور جميل جداً. عندها أقول لنفسي: ها، لقد نجحت، لقد أنجزت العمل بين الغلافين من جديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مارلي هاوير (Marli Huijer) فيلسوفة وكاتبة هولندية ولدت في أمستردام 1955. محاضرة في كلية "ده هاخسة" وأستاذة في جامعة "إيرسمس". صدر لها هذا العام كتاب "الإيقاع: في البحث عن زمن العودة" منذ أبريل عام 2015 أصبحت أول امراة هولندية تنال لقب "مفكر الوطن" ويتم اختيار صاحب اللقب من قبل عدد من الصحفيين والمفكرين بمبادرة من مجلة تراو (Trouw) ومجلة الفلسفة (Filosofie Magazine) والمدرسة الدولية للفلسفة (ISVW) وعدد من دور النشر.

المصدر: مجلة FLOW

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم