أغلب دور النشر أصبحت تشترط على الكاتب دفع تكاليف طباعة هذه الأعمال، لكي تضمن مقدما ربحها المادي، بغض النظر عن قيمة العمل فنيا وجماليا. المتأمل في المشهد الأدبي الراهن سوف يلاحظ أن كتابة الرواية تحولت إلى غواية كبيرة، تستقطب الجميع شعراء وكتابا وهواة كتابة ومنتحلين صفاتها، حتى أصبح من المتعذر على القارئ متابعة ما يصدر من روايات جديدة، أو معرفة الكثير من الأسماء الروائية الجديدة التي تنضاف كل عام إلى قائمة الكتاب الروائيين العرب. في حقبتي الستينات والسبعينات كانت أسماء الروائيين العرب معروفة لجميع المشتغلين في حقل الأدب، أو لقراء الأدب، وكانت جميع أعمالهم معروفة أيضا، ويمكن قراءتها، أما الآن وبعد أن تصدرت الرواية المشهد الأدبي، أصبح من الصعب متابعة هذا الكم الكبير من الإصدارات التي تقذف بها المطابع سنويا، وبالتالي معرفة قيمة الإضافات وحجم المنجز الإبداعي، الذي استطاع هذا الكم المتزايد من المنجز الروائي أن يقدّمه للرواية العربية.

عاملان مهمان يقفان في خلفية هذا المشهد، أولهما التبدل في مزاج القارئ العربي، وتحوله نحو الرواية بسبب الوضع الذي آل إليه حال الشعر، والثاني هو عدد الجوائز وقيمتها المادية التي تمنح سنويا للرواية، إضافة إلى ما تحققه هذه الجوائز من شهرة للفائزين بها. أما العامل الطارئ فيتعلق بسهولة النشر بعد أن أصبحت أغلب دور النشر تشترط على الكاتب دفع تكاليف طباعة هذه الأعمال، لكي تضمن مقدما ربحها المادي، بغض النظر عن قيمة العمل فنيا وجماليا.

أعرف صاحب دار نشر يبحث عن كاتبات مبتدئات، يمتلكن القدرة على الدفع المجزي، بينما يتولى هو أعمال التدقيق اللغوي والنحوي والتدخل أحيانا حذفا وإضافة على النص قبل طباعته، طالما أن ربحه المجزي مضمون، وأن صاحبات هذه الأعمال يؤمن تسويقا جيدا للكتاب، إضافة إلى مساعدته في تسويق مطبوعات دار النشر الخاصة به.

إن التركيز في حياتنا الثقافية على الرواية ومنحها كل هذا الاهتمام نقدا وجوائز ودعاية ومهرجانات، في وقت تكاد تغيب فيه العوامل الموضوعية في التعامل النقدي والإعلامي مع هذا المنجز، قد سمح بإغراء الكثيرين والكثيرات من الكتاب المبتدئين لخوض هذه المغامرة، وتقديم أنفسهم كأصحاب تجربة، دون أن نلحظ حتى الآن محاولة مخلصة من القائمين على الجوائز والصحافة الثقافية لتصويب هذا المشهد، وفتح باب النقاش الموضعي البنّاء حول قيمة هذا المنجز، والإضافات التي استطاع أن يحققها.

كل هذا الذي يحدث لا يعني أن الرواية العربية لم تتطور، وأن هناك العديد من التجارب والأسماء التي أضافت الكثير لها، من الجيل الأكبر، أو الجيل الجديد، لذلك يجب ألا يضيع هذا المنجز في زحمة هذه الضوضاء، بحيث يمنح ما يستحقه من دراسة واهتمام يعلي قيمة الإبداع.

كاتب من سوريا عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم