الكاتبة السورية شهلا العجيلي تعتقد أن الفنّ عموماً مواجهة جماليّة عبر النمذجة التي تبرز الأضداد.

تبحث الروائية السورية شهلا العجيلي في روايتها “سماء قريبة من بيتنا” في خريطة التحوّلات التي اعترت الشرق الأوسط منذ نهايات القرن التاسع عشر، مروراً بحربين عالميّتين، إلى اللحظة الراهنة، من خلال مشاهدات إنسانية للبلد الذي ولدت وترعرعت فيه واليوم يغرق في الظلام، الرواية مليئة بتفاصيل مدن وأشخاص يصارعون القسوة يوميا، تكتب عن الحرب وما تخلّفه من يتم وتشرد وضياع للأحلام، في مخيمات اللجوء، عن الموت الذي لا يفرّق بين أحد، ما تكتبه شهلا العجيلي في الرواية يقترب من بلدي ليبيا الذي يعيش القسوة بكامل تفاصيلها. لكل كاتب طريقته الخاصة لحظة اقتناص الكتابة، هنا سألنا الروائية شهلا العجيلي عن قواعد الكتابة لديها فقالت “شروط لحظتي الكتابيّة تبدو غير معقّدة، ليس أكثر من الهدوء والانفراد والمثابرة، لكنّها بالنسبة إلى شخص مثلي صعبة التحقّق، فالعائلة، والعمل الأكاديميّ، والحرب.. كل ذلك يجعلني صيّادة للوقت أنتظر أن ينام الجميع، ويتوقّف إطلاق النار، وينتهي موسم أبحاث الطلبة، وأبحاثي الخاصّة، ويهدأ العالم لأستطيع أن أكتب. الابتعاد عن النصّ أمر مقلق للروائيّ، عليه أن ينكبّ ويكتب بلا انقطاع، وألّا يهجر عالمه، حتّى لا تيأس شخوصه من رعايته، فتعمّ الفوضى في النصّ”.

شهلا العجيلي روائية وناقدة سورية، حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي، وعبر صفحات “العرب” نتحاور حول روايتها “سماء قريبة من بيتنا” التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية “البوكر” للعام 2016.

مفارقة حادة

“جمان بدران” الشخصية الرئيسية في رواية “سماء قريبة من بيتنا” تعيد شهلا العجيلي من خلالها اكتشاف ذاتها عبر الكتابة. وهي كما ترى الكاتبة صارت نموذجاً فنيّاً مؤثّراً في كلّ من قرأه.

نموذج فنيّ حقيقيّ تكاثفت فيه السمات الواقعيّة لامرأة سوريّة تعيش في هذه المرحلة، تمتلك تاريخاً عائليّاً كثيفاً، وتعي ذلك التاريخ، وتأتي اللحظة الحاسمة لتعبّر عن ذلك الوعي عبر سرد، ونقد، وسخريّة، ووجع، ورثاء، لكن بلا مبالغات، بل بمحاولات التفكير الموضوعيّ عبر طرح الأسئلة، ففي لحظة الحرب أو مقاربة الموت والزوال، تطفو الأسئلة الحقيقيّة التي كانت من قبيل المسلّمات، ولعلّ لحظة معرفة “جمان” بإصابتها بالسرطان هي اللّحظة التي حدّدت الجوهريّ من العارض أو الوهميّ، لتكشف لنا مخاتلات التاريخ، وخدعه بشجاعة مطلقة، فالمرض يحرّر، والحرب تحرّر.

يسعدني أن تصير “جمان بدران” شخصيّة تمشي مع كثير من الناس، يسألونني عنها، عن أصولها، ومصيرها، وكأنّها من لحم ودم! لقد انضمّت إلى إيمّا بوفاري، وآنّا كارنينا، وسلمى كرامي، وظلّت شخصيّة إشكاليّة كاشفة لتحوّلات الواقع، من غير أن تمنح أسرارها جميعاً. وتعتقد الكاتبة أن الفنّ عموماً مواجهة جماليّة عبر النمذجة التي تبرز الأضداد. والكاتب يصوّر الحياة في ديناميكيّتها، وهنا سيظهر كلّ شيء، لكن ما حدث في “سماء قريبة من بيتنا” أظهر المفارقة الحادة بين القبيح والجميل، لأنّ الأماكن التي كانت مسرح الأحداث أماكن موسومة تاريخيّاً بـ(الجميل): الرقّة، وحلب، ودمشق، ويافا، وبراغ، والكاريبي، إنّها جغرافيا لها ثقل تاريخيّ يمنحها الجلال أيضاً، والذاكرة تحمل لها الكثير من التصوّرات الرومانسيّة. الشخصيّات تمتلك ذلك التقييم الجماليّ أيضاً، فجمان وهانية ويعقوب ونبيلة وناصر شخصيّات محبّة وخيّرة، تعاندها أقدار قاسية كالحرب والمرض، والاغتراب، لذا بدت المفارقات الجماليّة حادّة، وكانت ذات وقع أكبر على المتلقّين.

علامة نوستالجية

وحول دلالات عنوان “سماء قريبة من بيتنا” تقول الكاتبة “أنا أفضّل العناوين متعدّدة الدلالة. هناك من سيقرأ العنوان على أنّه مصدر للتفاؤل على أساس فكرة الإيمان، فالشخصيّات كلّها في النصّ لم تفقد إيمانها رغم ما تعرّضت له، تيأس، ثمّ تتمسّك بحبال الرحمة. الأطفال في النصّ يسألون عن الله، والكبار يمنحونهم إجابات إيمانيّة، كما يحدث في الحياة، لكنّهم يتساءلون أيضاً عن السبب الذي تتركهم فيه السماء لذلك العذاب. الدلالة الأخرى هي قرب السماء بمعنى المعراج إليها، فهي قريبة بحيث يصعد الناس إليها بسهولة، الشهداء والمرضى والأحبّة واللاجئون.. وبالنسبة إليّ السماء علامة نوستالجيّة، وعتبة إلى الألفة، هي سماء المكان الأوّل، الرقّة، التي تحنّ إليها ‘جمان’ في تنقّلاتها العديدة، إذ تظلّ تبحث عن سماء موطنها التي أظلّت بيتهم قرنين من الزمان، ولن تجدها في فضاء النصّ أبداً”.

حيادية الأمكنة

المكان يحضر على امتداد صفحات الرواية بذكريات جمان عن طفولتها، عن شوارع وأزقة حلب والرقة ودمشق، والدمار الذي حل بالجميع. فأوضحت الروائية شهلا العجيلي “عشت في بلاد غنيّة بالآثار العمرانيّة، وكان لديّ شعور راسخ بثبات المكان في مواجهة الزمان وتحوّلاته. في بلادي آثار تعود إلى الألف العاشرة قبل الميلاد، لطالما منحتني شعوراً بالديمومة، وأماناً بدائيّاً يتعلّق بفكرة الخلود، بأنّنا سنذهب وهذه الديار ستبقى عامرة، وممتدّة وآخذة في النماء والتطوّر، لم يكن هذا الدمار في بالي مطلقاً! حين صرت على مسافة من هذه الأمكنة، بسبب الدراسة أو العمل أو الارتباط العاطفيّ، كان عليّ أن أستعيدها، وأراها بعين الحنين أو النقد، بعدها جاءت الحرب، وصار لزاماً عليّ أن أقيّدها، وأقيّد علاقتي معها لأثبت أنها كانت حقيقة لا أحلاماً.

دائماً أستعيد أمكنتي، فهي الهويّة والذاكرة، كتبت عن الرقة، وحلب، في (عين الهرّ) وفي (سجّاد عجمي)، لكن هذه المرّة في (سماء قريبة من بيتنا) لم أشتغل على جغرافيّتي الخاصّة من أجل استعارة فنيّة أو كنائيّة، بل كتبت وقلبي يحترق، أريد تثبيت الصورة التي في ذاكرتي، بكلّ ما فيها من جمال مورفولوجيّ، وبما تحتويه من علاقات نسقيّة قاسية أو كريمة. لقد منح ذلك كلّه النصّ أثراً زائداً عن الأثر الجماليّ لأماكن حياديّة، أضفى عليه الملحميّة والدراميّة بمفارقات أوجع بين قبح الحرب والدمار والجمال الذي كان عليه المكان تاريخيّاً.

ما الذي منح الإلياذة هذا التأثير؟ إنّها التفاصيل الجماليّة لذلك العالم الذي دافع عنه أبطالها وهي القيم، والعمران، والفنون..، لو حلّ الدمار بصحراء بلقع، لما ترك الأثر ذاته على المتلقّين عبر العصور. والجاهليّ حينما وقف على الطلل، كان يقف على ذكرى الحياة التي سادت ثمّ بادت. الناس يشعرون بفداحة الخراب حين ينال من المدن العامرة، فحتّى خراب إرم ذات العماد لا يترك الأثر ذاته، الذي يتركه خراب غيرها، إذ ليس لها تاريخ بوصفها بلاداً آهلة بالناس الذين يملكون فيها جذوراً أو ذكريات، في حين كان خراب المدن الأندلسيّة بالغ التأثير كما وصفته المدوّنات، لذلك كان رثاؤها موجعاً، إذ طالها الخراب على مستوى العمران والهويّة، كما حصل مع مدننا السوريّة، هناك هويّة عربيّة سوريّة مستهدفة، فضلاً عن خسارات الأفراد والعائلات، التي هي الأقسى، ذلك أنّ فكرة الضحيّة فكرة لا أخلاقيّة مهما كان الفداء نبيلاً، فكرة الضحيّة فكرة آثمة، اخترعتها الأنساق لتسويغ القتل”.

أفراد شائهون

هناك رابط بين روايات “سجاد عجمي” و”سماء قريبة من بيتنا” وهو أن الصراعات السياسية والثقافية واحدة منذ بداية وجود البشرية. حول وجهة النظر هذه ترى الكاتبة أننا لا نتغيّر كثيراً، وما يسمّيه (الشكلانيّون) بالأغراض المستمرّة ستتجدّد، ولن تغيب عن حياة البشر أو عن تاريخ الكتابة: الحبّ والكره، والخيانة والإخلاص، والتضحية والجشع، الحروب، والرغبة في السلام، والصراع الذكوريّ الأنثويّ..

الرواية تلتقط لحظات التحوّلات حيث تظهر لدى الأفراد الأفعال الثقافيّة التي يدافعون بها عن وجودهم، عن ذواتهم الفيزيائيّة بداية، ثمّ عن هويّاتهم. في “سجّاد عجمي” كان ثمّة فتنة طائفيّة هجر الناس نتيجتها بلادهم، وتغيّرت حياتهم التي لا يمكن أن تعود إلى سابق عهدها. صوّرت مجتمع القرن الثالث الهجريّ ليس كما يظهر في الأعمال التاريخيّة مجتمعًا للجواري وسيّدات تربطهنّ المكائد ورجالا يفكّرون بملك اليمين، بل كانت النساء عاملات، وقد وضعتهنّ في حقول عملهنّ، وفي علاقاتهنّ مع الرجال والأطفال والعسكريّين والتحوّلات السياسيّة.

فكرة العمل والإنتاج فكرة مهمّة بالنسبة إلى النساء، وفكرة الرغبة في تنمية الأسرة محوريّة أيضاً، كلّ ذلك يجرفه الخراب الذي تحمله رغبات شخصيّة عنيفة لأفراد شائهين. وفي “سماء قريبة من بيتنا” لا تتوقّف الحروب منذ مئتي عام، وتتحوّل معها الهويّات والطبقات، ويموت الكثيرون بلا سبب، وتتحوّل حياة آخرين إلى يتم، وبؤس، وتشرّد، أو ربّما إلى الغنى أو الجريمة.. المهمّ أنّها ستكون حياة مختلفة عنها لو لم تقم الحروب. إنّ الحياة السابقة لهؤلاء الموتى والحياة الجديدة لمن تركوهم، هي ثيمة رئيسة من ثيمات الرواية. رواية تاريخية

ترصد الرواية التحولات التي حلت بالشرق الأوسط منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اللحظة الراهنة. ولكن هل هي رواية تاريخية شاملة؟ الكاتبة ترى أن تاريخ العالم شديد التشابه، وليس فيه الكثير من الطفرات، لكنّنا نحتاج من حين إلى آخر إلى أن نعيد كتابته، وقراءة أحداثه. مع الحرب بدا تقارب العالم أكبر، ويمكن للرواية أن تعيد ترتيب العناصر: الخراب، المدن المحاصرة، الضحايا، الجلاّدون، المنتصرون، المهزومون. وحين تمسّنا النار على المستوى الشخصيّ سنشعر بذلك التشابه، وسنقرأ تاريخ الآخرين برؤية جديدة أيضاً، نصير أكثر تعاطفاً معهم، وأكثر موضوعيّة مع أنفسنا ومع تاريخنا الشخصيّ، ومع المشترك، والمجمّع. هذه المنطقة بالذات منطقة حارة، لم تنل حتّى استراحة المحارب. فأعمارنا قريبة من عمر تكوّن الدولة القوميّة، والحربين العالميتين والاستقلال: أبي ولد في حرب، وأمّي في حرب أخرى، وأنا جئت بعد حرب ثالثة، وأختاي في حرب، ثمّ عشنا حرب لبنان، والعراق والسودان، ودائماً هناك فلسطين.. والآن النار في البيت.

وتضيف الكاتبة “ما يهمّ في الرواية ليس حركة التاريخ بحدّ ذاتها، بل حركة الناس أثناء التحوّلات، تلك هي مناطق الرواية المحبّبة، ولم يكن التاريخ في ‘سماء قريبة من بيتنا’ موضوعي الرئيس بل هي النكبات، والحروب، وأطماع الكبار التي تؤدّي إلى تدمير العائلات التي كانت تعيش بأمان، ولها أحلامها وطموحاتها، ومعتقداتها وهويّتها. الهويّة رؤية لها صفة القداسة لعلاقتها بالوجود الذاتيّ، فكيف للآخرين أن يحدّدوها، فيتواضع عليها الناس، ثمّ بنقضون هذا التحديد ويغيّرونه؟! عشنا مؤمنين للعشرات من السنين بالدعوة القوميّة، رتّبنا حياتنا على أساسها، تزوّج الناس، وكوّنوا عائلات بين العراق وسوريا والأردن ومصر، ثمّ نتيجة قرارات فرديّة، أو عنف جماعيّ، تغلق الحدود وتنقطع الأواصر. يجب أن تتحمّل التشريعات السلطويّة مسؤوليّة حقيقيّة عن مصائر البشر”.

كاتبة من ليبيا

خلود الفلاح

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم