على عكس الفضاء الأنجلوسكسوني، لم يعرف الفضاء الفرنكفوني، في القارة السّمراء، استقراراً، وبقي، منذ منتصف القرن العشرين يعيش في تقلبات سياسية وأخرى اجتماعية. حين سافر الطّفل إبراهيما، بطل رواية “الله يفعل ما يشاء” لأحمدو كوروما، في أدغال أفريقيا وأريافها، بحثا عن خالته، لم يكن يعلم أن حياته ستنتقل، من حلم إلى صدمة، لم يكن يعلم أن الحياة لا تسير «كما يشاء»، وأنه سيتخلّى، رغم أنفه، عن براءته، ليحمل السّلاح، ويشارك، في حرب أهلية في ليبيريا، سينجو منها ويعود إلى كوت ديفوار، بينما أطفال كثيرون مثله سيموتون في الطّريق. لو كان إبراهيما شخصية حقيقية، فسيكون اليوم في سنّ الثامنة والعشرين، نحن لا نعرف إن كان شخصية واقعية أو خيالية، لكن الشّيء الأكيد أن حالات مماثلة له من شباب عاشوا الحرب، وشاركوا فيها في طفولتهم، لا بدّ أنها موجودة، هم أطفال حكى عنهم الرّوائي أحمدو كوروما (1927-2003)، كبروا في الحرمان والعنف، وفي مشاعر الانتقام، لا نستبعد أن يكون من بينهم واحد من منفّذي اعتداءات أبيدجان الأخيرة (13 مارس الماضي)، لكن، كما جرت العادة، راح الجميع يبحث عن تبريرات أمنية للواقعة نفسها، ونسينا الانتباه للأدب الإيفواري، الذي قدّم، في السّابق، بورتريهات مكتملة، عن شخصيات تشبه هكذا معتدين، وعن طرق وأسباب وصولهم للتّطرف، قبل أن يقوموا بعملياتهم الإرهابية.

على عكس الفضاء الأنجلوسكسوني، لم يعرف الفضاء الفرنكفوني، في القارة السّمراء، استقراراً، وبقي، منذ منتصف القرن العشرين يعيش في تقلبات سياسية وأخرى اجتماعية، فدول مثل غينيا أو كوت ديفوار أو الكاميرون، ظلّت تعاني، لوحدها، من الحروب الدّاخلية والدكتاتوريات، ومن الأمراض المزمنة أيضاً، وهي حقائق وجدت انعكاسا لها، في الأدب القادم من هذه الدّول.

ثم إن الفضاء الفرنكفوني ما يزال أقل حظاً من نظيره الأنجلوسكسوني، في الدراسات النقدية، فغالباً ما يتمّ تصنيف الأدب، القادم، من غرب أفريقيا، تحت تسمية «الأدب ما بعد الكولونيالي»، هذا المصطلح الهلامي، الذي لا يمكن أن نقدّم له تعريفاً واضحاً، يقوم بدور أساسي: التقليل من قيمة الأدب الأفريقي، المكتوب بالفرنسية، مقارنة بالأدب الفرنسي القادم من الميتروبول. مع العلم أن الأدب الأفريقي قديم جداً، وهو أدب شفوي، في الجزء الأهم منه، لكن بدأ التّأريخ له فقط، بدءًا من النّصف الثّاني، من القرن العشرين، مع ظهور أولى الأعمال باللغة الفرنسية، كما لو أن النّقاد، في الضّفة الشّمالية، لا يعترفون سوى بالأدب المكتوب بلغتهم.

أضف إلى ذلك أن ما أطلق عليه تسمية «حركة الزنوجة» أو لانجريتيد، التي روّج لها البعض وقتها بأنها حركة ثورية في الأدب الأفريقي، وظهرت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، واستفرد بها طويلا الشّاعر والرّئيس السينغالي الأسبق ليوبول سيدار سنغور (1906-2001)، لم تمثّل الأدب الأفريقي في مجمله، بقدر ما مثّلت أشخاصاً بعينهم، فبعض الأدب القادم، من غرب أفريقيا، لم يدخل في اهتماماتها، لم يكن يهتم فقط بالكتابة المضادة للكولونيالية، ولم يحصر نفسه، في مقاومة السياسة والردّ عليها، بل كان أيضاً أدباً ساخراً من الزنجي نفسه، راصداً وناقداً للمجتمعات الدّاخلية، التي تهيمن عليها قيّم القبيلة، وتنتشر فيها الشّعوذة والممارسات الوثنية.

اليوم، يبدو أن وضع الآداب، التي تأتي من غرب أفريقيا، من الفضاءات الفرنكفونية تحديداً، صار أفضل قليلاً، فقد تحرّر الجيل الجديد، وبعض الأسماء من جيل سبق، من مفهوم «الفرنكفونية»، التي لم تتوقّف لمجرد كونها منظمة، بل صارت أشبه بكائن خرافي، رأسه في فرنسا، وبقية جسده يتمدّد في أفريقيا، ينظر صوب الشّمال ولا ينتبه كثيراً لما يحدث في الجنوب، هكذا، خرج بعض الكتّاب من التصنيفات الجاهزة التي طالما رافقتهم، وبتنا نجد أسماءً تخلّصت من معالجة القضايا التقليدية، وصارت تنتقد الأبيض في بلده، مثل الغيني تيرنو مونينمبو أو الكونغولي آلان مابانكو.

في الجهة المقابلة، نجد كتاباً أنغلوفونيين، قد تجاوزا هذه المعضلة بسنوات، ومنهم من نال نوبل في الأدب (وول سوينكا)، وهناك من ينتظر دوره (مثل نغوغي واتيونغو)، فهل يتحرّر أدب الغرب الأفريفي من عقدة الكولونيالي القديم ويستقل كليّة بنفسه ويعيد الانطلاق مجددا؟

كاتب من الجزائر عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم