في صحراء أريزونا حيث اعتاد أن يمضي الشتاء قبل الانتقال إلى محطة أخرى مع قدوم فصل جديد، رحل الكاتب الأميركي «الأسطوري» جيم هاريسون عن عمر 78 سنة. من يراه، يظن أنّ هذا الرجل ذا البنية القوية واللحية البيضاء، الذي أمضى حياته متأملاً للطبيعة والأرض، حارساً من حرّاس الغابات الأميركية لا تمكن مقارعته. تنقل صاحب «يوم جميل للموت»، بين منازله في ميتشغين وأريزونا ليكون على تماس يومي مع الطبيعة البرية كما لو أنه «آدم الذي يرغب في إعادة اكتشاف عدنه»، وكانت فرنسا محطته المفضلة التي مكث فيها كلما استطاع. على غرار عشقه للطبيعة، اشتهر هاريسون بنهمه الشديد للطعام، وهي عادة لم يتمكن من التخلص منها، برغم اعتناقه «الزن» لترويض «روحه البرية الجامحة»، كما يصفها.

اختار هاريسون الكتابة حول مواضيع كبيرة كالطبيعة والأرض والموت والحياة، مما زجه في مقارنة مستمرّة مع ارنست همنغواي وتيودور روثك، وكلاهما من ميتشغين، لكنه تميّز بأن طرق أبواباً أدبية عدة بنجاح. منذ عام 1971، كتب هاريسون إحدى وعشرين رواية، وأربعة سيناريوات، وأربعة عشر ديوان شعر، إضافة الى عدد لا يحصى من المقالات. في كتابه الوحيد الموجه للأطفال بعنوان «الفتى الذي ركض إلى الغابة»، يتناول هاريسون طفولته، ناقلاً أحداثها بتفاصيل ودقة. هاريسون الصغير، الذي فقد بصره في عينه اليسرى، قرر أن يصبح زعيم المشاغبين في مدرسته كردّ انتقامي من الحياة. وفي محاولة لتهدئته، اصطحبه والده في رحلة إلى أعماق الغابة قائلاً: «أنت صبي برّي، وهذا هو مكانك المناسب». بعد أسابيع قليلة من الركض بجنون عبر الغابة، استكان غضبه وعاد إلى طبيعته. لكنّ تفاصيل هذه الرحلة سكنته وأسقطها لاحقاً عبر رواياته المختلفة، فكانت الطبيعة الروح المركزية لشخصياته ورواياته. حتى إذا ما قطنت شخصياته في المدينة فهي تبقى متلهفة للعودة إلى بلداتها النائية، تماماً كما كان يشعر حين عمل لفترة كأستاذ جامعي. يؤكد هاريسون «الجامعات هي في الأماكن الخطأ. هي دائماً في المدن أو الضواحي... لكننا مخلوقات حسية، تتحرك أدمغتنا بفعل المناظر الطبيعية والأصوات والروائح».

اعتاد هاريسون أن ينتقل إلى أمكنة مختلفة أو أن يقود سيارته لأسابيع كي يلتقط مشاهد وأصوات تساعده على «جمع ذكريات جديدة» لتغذية رواياته. فيقول على سبيل المثل: «إن رواية «المزارع» جاءت من رائحة الأعشاب المخدرة، بينما استوحيت «دالفا» من لوحة لإدوارد هوبر تصور فتاة وهي تنظر من نافذتها في المساء»، مؤكداً أنه في معظم الأحيان يتماهى مع أبطال روايته حتى يكاد ينسى نفسه، تماماً كما حدث مع «دالفا» حيث «أوغلت عميقاً في هذه الشخصية إلى حد ملامسة الجنون». «دالفا» ليست فقط امرأة تبحث عن هويتها، إنما هي «المرأة التي أردت أن أحبها»، وقد أظهرت هذه الرواية براعة هاريسون في الكتابة من وجهة نظر أنثوية بامتياز.

ما إن يوغل في شخصياته، لا يكترث هاريسون الى مدى السرعة في الكتابة على الورق. يقول: «ليس مهماً أن تدوّن الأحداث بسرعة. المهم أن تفكر فيها مطولاً. الأمر أشبه بالبئر وأنا انتظر حتى امتلائه». في محاضرة ألقاها عام 1997 ذكر هاريسون أنه كتب «أساطير الخريف» في تسعة أيام فقط، «لكنني فكرت فيها لمدة ثلاث سنوات». كما في الكتابة، ينصح هاريسون من يرغب بالزواج الى التريّث والتفكير لأنّ «الأمر يحتاج الى أن تضع حياتك وقلبك إلى غير رجعة». وعلى عكس الكثير من كتّاب جيله، حافظ الكاتب الأميركي المتميز على زواج دام أربعين عاماً وأثمر ابنتين. وعلى رغم ضائقة مادية استمرت عشرين عاماً قبل أن يصيب النجاح والشهرة، فاخر هاريسون بأنه لطالما تمتع بعائلة محبة وسعيدة، «جلّ ما رغبت به كان العيش في ذلك المنزل مع مزرعته الصغيرة والقراءة بشراهة». حصد هاريسون جزءاً من نجاحاته المادية من خلال كتابة سيناريوات لأفلام هوليوودية شهيرة منها «الذئب»، «أساطير الخريف»، و «الانتقام». وهذا النوع من الكتابة تختلف في رأيه عن كتابة الروايات اختلافاً جذرياً، «عندما كنت تكتب من أجل الشاشة، عليك رؤية العمل وتأطيره قبل أن تكتب، لكنّ الأمر لم يكن صعباً لأنني حاولت أثناء المراهقة أن أكون رساماً، وهناك جزء مرئي في مخيلتي». بالفعل، حققت «أساطير الخريف» نجاحاً خرافياً كفيلم سينمائي أظهر تراث الهنود الحمر وحكمتهم في مقاطعة مونتانا، بينما ركز على «حماقة» الرجل الأبيض، وقد تعرض هاريسون إلى أبعد حدود النقد، عندما قدم أجداداً بنوا مجدهم وثراءهم الفاحش على نهب الغابات وإبادة السكان الأصليين. «لكنه لم يكترث لكل هذا الصخب، بل ترك ضجيج المدن، وانتقل الى العيش في إحدى قرى ميتشغين عند نهر «الحجر الأصفر» الشهير، قرب أساطير الهنود الحمر». بعد كتابة سيناريوات ناجحة، عاد جيم هاريسون إلى عالم الرواية من خلال «العودة إلى الأرض» عام 2007، ومن ثم رواية «ملحمة أميركية» ( 2009)، ورواية «المعلم العظيم» ( 2012). ولكن، إذا كان هذا الأديب الأميركي معروفاً اليوم برواياته الشهيرة على الخصوص، فإنّ الشعر يبقى أساسياً، بل ونقطة الانطلاق، «إن الشعر يسكنني من الرأس إلى القدمين، وسيظل يسكنني إلى الأبد»، هكذا يقول جيم هاريسون.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم