ميلان كونديرا ليس روائياً فحسب بل له مشروع نقدي يقدّم من خلاله قراءاتٍ لأعمال روائية ويتوقّف عند الأشواط التي قد قطعتها أساليبُ الفنّ الروائي، حيثُ يعتقد بأنّ الرواية قد أتاحت المجال لمجاورة المقدّس والمدنّس، المأساة والملهاة، العبث والجد، التشاؤم والتفاؤل.تتمحور أعمال الروائي التشيكي ميلان كونديرا (1929) حول ما يمرّ به الإنسان من الأطوار التي قد تبدو أحياناً غير مفهومة بالنسبة للذات الإنسانية، إذ يبدأ كونديرا من التفاصيل الصغيرة لينطلق نحو القضايا الوجودية.

العُقد الإنسانية

ويقارب صاحب (الهوية) العُقَد التي تؤرق الإنسان بأسلوب يمزج بين الطابع الفكاهي والعمق الفكري. كما لا ينفصل العمل الروائى لديه عن مقاصد معرفية، ولا يقبل بتأطير الرواية داخل قوالب سياسية وفلسفية ودينية محدّدة.

ويُعين كونديرا وظيفة الرواية بإحداث الثغرات في كلّ الموضوعات والقضايا التي تُحيط بها، فتكتسب الرواية أهميتها لدى صاحب (الوصايا المغدورة) باكتشافها لما يعجز سواها عن التوصّل إليه، فيتجلّى ذلك في روايته (الحياة في مكان أخر) حيث يعالج كونديرا تلك «الثيمات والموتيفات» التي قد تتكرّر في أعماله الأخرى لكن بصيَغ مختلفة وبالتنويع في الأساليب وبناء الشكل.

تدور رواية (الحياة في مكان أخر) حول حياة شاعر لا يفلح في محاولاته بالخروج من سلطة الأُم. هي تدخل إلى تفاصيل حياته، تختار له شكل الملبس، تحدّد له مواعيد العودة إلى البيت، وتقرأ قصائده وتنقّب فيها عن صورة الأنثى التي تزاحمها في مخيّلة ابنها. تقتحم خصوصياته لأنها لا ترغب أن يقيم بطل الرواية، ياروميل، في عالم غير عالمها، وذلك ما يسبّب له الإعاقة في التواصل مع المرأة وضياع الهوية.

المكان البديل

يتأكّد للمتلقي من خلال مقاربته لعنوان الرواية بأنّ البنية المكانية في هذا العمل تبدو كوحدة مركزية في منظومة السرد. تتساءل الأمّ عن المكان الذي قد احتوى لقاءها بالشاب المهندس الذي كانت تحبُه، وعلى أثر هذا اللقاء الحميم قد حبلت بابنها ياروميل. ثمّة إحتمالات عدة، فقد يكون اللقاء في شقة أحد أصدقاء الشاب الذي سيصبح والداً لـ ياروميل، أو على مقعد حديقة عمومية أو ربما في أحد ضواحي مدينة براغ.

وبما أنّ أحداث الرواية لا تجري كلها في مكان واحد، يريد ياروميل اختبار الحياة في أمكنة أخرى، كما أنّ ما يقرأه من القصائد التي أخذها من الرسّام تؤثّث له حياة موازية لحياته الواقعية. وعندما كان يشعر باليأس والمهانة في حياته الواقعية كان يلوذ إلى العالم اليوتوبي، إضافة إلى الغرفة التي خصّصتها له أمه منذ كان طفلاً حتى تعطيه فرصة الحفاظ على خصوصياته، رغم أنها كانت تخرق هذا الحصن وتجرّده من كلّ خصوصية.

يتعرّف الابن على محترف الرسّام الذي يرتاده ليتلقى دروس الرسم، فلا يروق بعض تصرّفات ياروميل لأمه وتزعم بأنه واقع تحت تأثير الرسّام، فتحاول تدارك هذا الأمر بلقاء الأخير. وهي بدورها تصبح عشيقة الرسام، غير أنّ علاقتهما لا تستغرق وقتاً طويلاً، وسرعان ما تتفرّغ من جديد لمراقبة إبنها.

ينفتح ياروميل على فضاء جديد بانضمامه إلى الحلقة الثورية التي تحتدم فيها النقاشات، وهي مكان يتّصف بطابع جماعي مقابل المكان الفردي الذي تغيب فيه إمكانية التواصل مع الآخر. ومن هنا يتعرّف إلى الفتاة صاحبة «النظّارة»، وتنشأ بينهما علاقة حبّ، لكنه لا ينجح في تجاوز حال القلق العاطفي. ولايتحرّر من هذه الحال إلّا بعد تعرّفه الى الفتاة التي في شقتها المبقعة بالرطوبة، يبلغ مرحلة النضج الجسدي ويعود إلى كتابة الشعر.

يواصل الابنُ كتابة الأشعار واكتشاف المزيد من التجارب، كما أنَّ الأم لا تكفّ عن مراقبة قصائده ومغامراته بعد تلقّيها نبأ موت زوجها المهندس وخبر علاقته بفتاة يهودية. تراودها فكرة البحث عن الفنّان ومرافقته في أمكنة زاهية، وهي مثل غيرها ترغب في معرفة مكانٍ بديلٍ، وهنا يكون مفهوم المكان صنواً لعلاقة جديدة ومغامرة استكشافية.

استحالة اليقين

يُعَدّ الجسدُ مصدراً للمباهج، وتتمظهر من خلاله السمات الجمالية للكائن الإنساني، إضافةً إلى ما يكتنزه من خصوصيات وجودية تنعكس على أبعاد النفس. يتعامل كونديرا في رواياته مع موضوع الجسد من منطلق وجودي في رواية (المكان في مكان آخر)، ويتحوّل الجسد إلى هاجس يقلق الشخصيات، لاسيما لدى الأُم والابن والفتاة النمشاء.

لا يرتاح ياروميل بمظهره وذقنه المسحوب، ويعتبر أنّ شكل ذقنه أقرب إلى عالم القرد، كما يمتعض كلّما ذكّروه بأنّ ملامحه مشابهة لملامح أمّه، لذلك يحاول أحياناً تقمّصَ شخصية الفنّان، مُتخيّلاً لنفسه شكلاً جديداً.

من جانبها، تعيش الأم أيضاً حال القلق من جسدها عندما تقيم علاقات حسّية مع الفنّان، ويشمل الفتاة النمشاء قلق مشابه أيضاً. يشتغل كونديرا بثيمة الجسد بوصفه جانباً مرئيّاً، ليتوغّل في الجوانب اللامرئية داخل عالم الإنسان ويسلّط الضوء على تلك الأسئلة التي تراوده في مراحل مختلفة. ويُهيمنُ الراوي العليم على مجرى السرد مراقِباً تحوّلات الشخصية الرئيسة ويكتشف ما يدور فى تفكيره وخياله.

ويتجنّب الراوي تقديم تفاصيل دقيقة عن الشخصيات الأخرى فيشير إليهم بصفاتهم مثل: فتاة النظارة، الفتاة النمشاء، المهندس، وفي ذلك ينتهج أسلوب كافكا في القصر، وباتريك موديانو في المجهولات، وساراماغو في الأعمى.

تجري أحداث الرواية في براغ، في زمن ينتقل فيه هذا البلد إلى مرحلة النظام الشيوعي الذي يضع كلّ التيارات الأدبية تحت السؤال الأيدولوجي، ما يؤدّي إلى انحسار المفاهيم الجمالية لصالح المنهج الحزبيّ الذي يلتزم به كلّ الشعراء والأُدباء، فيردّد في داخله أنّ ما يحدّد هوية الانسان هو الالتزام بالواجب. لذلك، يخبر عن أخ حبيبته عندما كان يسمع من الفتاة النمشاء بأنّ أخاه يريد أن يهرب. ويتبنّى الراوي أسلوب التجاور بموازاة سرده حياة شخصية ياروميل.

ولعلَّ ما يميّز هذا العمل الروائي هو شمل حيوات متنوّعة، والجمع بين التشويق والعمق الفكري، بالإضافة إلى تناول الموضوعات التي تفرض نفسها على كلّ مَن يقارب الانسان على مستويات متعدّدة.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم