أثارت رواية «الطلياني» للكاتب والأكاديمي التونسي شكري المبخوت، الفائزة بجائزة البوكر هذا العام، ردود أفعال متباينة في الساحة الروائية والإعلامية العربية، وحظيت بهالة من الإشادة والترحيب مثلما قوبلت لدى البعض بنوع من اللامبالاة والتجاهل. وقد تابعت شخصيا هذا النقاش النقدي والتوصيفي عبر مختلف منابر الصحافة العربية المكتوبة والإلكترونية، حيث طرحت بعض الأسئلة حول الهواجس غير المعلنة أمام جمهور النقاد والأكاديميين وعموم القراء والمهتمين بالرواية العربية، التي تحكمت في منح الجائزة للروائي التونسي شكري المبخوت، بل ذهب بعض النقاد المصريين حد التشكيك في الكفاءة السردية للروائي، في ما نحى آخرون نحو التركيز على البعد الجغرافي (تونس مهد الربيع العربي). تماما مثلما شكك فريق من النقاد بأهلية أعضاء لجنة على اعتبار أنها تضم شعراء ليس لهم باع طويل في السرد أو تخصص أدبي يقدم مقاربة علمية ومنصفة للأعمال الروائية المعروضة للظفر بالجائزة بعيدا عن منطق الاصطفافات الذي أضر بالاستحقاقات الأدبية وبصورة الإنتاج الأدبي العربي بشكل عام. لكن في الحقيقة أن السر الذي ينبري الجميع لإخفائه هو أن الخلاف بدا منذ فترة طويلة يتمدد ويتحول من مجال الكتابة والإبداع والنقد إلى حلبة غير مرئية لتراشق جغرافي ونفسي وسياسي مقنع. تحكي الرواية عن قصة البطل ـ الشاب التونسي (الطلياني) ذي الميول اليسارية والمناضل التقدمي في فضاءات الجامعة، وكذلك الطفل الشقي والفتى المدلل في العائلة، فان هناك جوانب أخرى موازية داخل المتن الروائي يظهر البنية الهرمية للعائلة التونسية، فالأب هو الرمز الصامت لهذه الهرمية (رغم حضور الأم) والأخ الأكبر هو امتداد لهذه الهرمية المحافظة، رغم مستوى تعليمه العالي وانفتاحه على الغرب وعمله خارج الوطن. إن الوقوف على ما وراء النص الروائي وعلى لا شعور البطل الروائي يؤكد تشظي صورة بطل الرواية، فهو اليساري الثائر والعاشق المرهف (زير النساء) والصحافي المثقف المنفتح على الحداثة الأدبية بإبداعاتها الملهمة وكتابها المرموقين، وهو «البرجوازي الصغير» التائه في زحمة التحولات السياسية والمجتمعية المتسارعة. يتحرك الطلياني إذن في فضاء اجتماعي ضبابي وعلاقات إنسانية غير ثابتة، تتأرجح بين الاستقرار والتوتر والعنف على المستوى العاطفي والسياسي والقيمي، في مجتمع يعيش على إيقاع الانتظار القاتل، ويسكنه هاجس الخوف والترقب وتحكمه القبضة البوليسية والاحتقان السياسي، بين أركان الحكم والفصائل المعارضة على مستوى الجامعات والقاعدة الاجتماعية العميقة. إنه المجتمع المشبع بالتناقضات حد القرف، حيث مؤسسة الزواج ليست مرتبطة بالانسجام الفكري أو الاجتماعي، بل هو عبارة عن بنية معقدة تسلسلية من المصالح والتنازلات والتفاهمات إلى درجة الصدفة والعبث. ويمكن اعتبار رواية «الطلياني» في جميع الحالات وثيقة ذاتية (شاهدا) وسوسيولوجية وسياسية للمرحلة البورقيبية بكل تناقضاتها ومآلاتها، ومرحلة بنعلي وما أحاط بهاتين المرحلتين من قمع وفساد وخنق للحريات ونهب لثروات تونس، ومن تجاذبات سياسية وصراع فكري بين اليسار والإسلاميين وانتهاء بالهيمنة المروعة للبوليس السياسي على الحياة العامة، والفساد والقمع وسيادة قيم النفاق والانتهازية. ويقدم لنا شكري المبخوت في هذا النص الروائي صورة تشريحية عن النخبة المهزومة والمهزوزة التي يتلاعب بها النظام لمصلحته كيفما شاء، كما نقف عند مشاهد جارحة عن التمزق الشخصي والتفكك الاجتماعي، ما ينذر ببداية الانهيار الكبير (الثورة) حيث اليد الطولى للإسلاميين المتطرفين من جهة، والمجرمين والمنحرفين على جزء كبير من الأحياء الشعبية وفرض منطقهم على الآخرين. ويستولي على البطل في النهاية إحساس عارم بالضياع والهزيمة، حيث يجد عزاءه في البوح الشفاف والإدمان والتسكع واللهاث خلف النساء. إنها صورة لخسارة جيل أو جيلين بأكملهما، ليس في تونس فقط بل في العالم العربي برمته من المحيط إلى الخليج.

كاتب مغربي

بن اموينة عبد اللطيف

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم