يؤكّد الرّوائي ماريو بارغاس يوسا (نوبل 2010) في مقاله لماذا نقرأ الأدب؟ (ترجمة راضي النماصي. ضمن كتاب داخل المكتبة، خارج العالم، دار أثر، 2015) بأنَّ الشَّخص الَّذي يعتذر قائلا: أحبُّ القراءة، لكنَّني مشغول طوال الوقت “بأنَّه شخص يثير الشَّفقة لأنَّه يجهل المتعة الَّتي تفوته حين لا يقرأ الأدب؛ شخص همجي الرُّوح، ويخاطر بحرّيته. وما ينطبق على الأشخاص ينطبق على المجتمعات؛ ذلك أنَّ مجتمعا بلا قراءة الأدب مجتمع همجيُّ الرُّوح يخاطر بحرّيته.

ليس الأدب -من وجهة نظره- نشاطا كماليًّا يمكن الاستغناء عنه، وليس ترفيها، ولا ترفا للأشخاص الَّذين يملكون وقتا فارغا يقضونه في قراءة الأدب. الأدب -فيما يذهب إليه- نشاط لا يُستغنَى عنه؛ من أجل تشكيل مجتمع حديث ديموقراطيّ، وبتعبيره ” مجتمع مواطنين أحرار “.

ينتقد يوسا الاتّجاه الثَّقافيَّ النَّامي (التَّخصص في فرع معين من المعرفة). صحيح أنَّ لهذا الاتّجاه منافع متعدّدة لكنَّه يمحو الصّفات الفكريَّة والثَّقافيَّة بين الرّجال والنّساء الَّتي تسمح لهم بالتَّعايش، والإحساس بالتَّضامن. يؤدّي التَّخصُّص إلى نقص في الفهم الاجتماعيّ، وإلى تقسيم البشر إلى جماعات/أقلّيات مغلقة (جيتوات) من التَّقنيين والإخصائيين. يشْبه التركيزُ على التَّخصُّص التركيزَ على غصن أو ورقة؛ ونسيان أنَّ الورقة جزء من الغصن، وأنَّ الغصن جزء من الشَّجرة، وأنَّ الشَّجرة جزء من الغابة. يخلق الوعي بوجود الغابة (الكلّ) شعورا بالجماعة ككلّ، وإحساسا بالانتماء. يقصد يوسا بالانتماء الشُّعور الَّذي يربط المجتمع ببعضه البعض، ويمنعه من أن يتفتت إلى عدد لا يتناهى من الأجزاء الَّتي تعني هوس الأنانية بالرُّوح.

سيبقى الأدب هو القاسم المشترك بين التَّجارب البشريَّة، يتعرَّف النَّاس -حين يقرؤونه- أنفسهم والآخرين بغضِّ النَّظر عن أعراقهم وثقافتهم وتفصيلاتهم الاجتماعيَّة والوظيفيَّة. يساعد الأدب القرَّاء على أن يتجاوزوا التَّاريخ. وحين يقرأ النَّاس فإنَّهم يتعرّفون بعضهم عبر الزَّمان والمكان.

لا يوجد -من وجهة نظر يوسا- أفضل من قراءة الأدب ليحمي النَّاس من الكبرياء والغرور والاستعلاء والتَّعصُّب والفصل السّياسيّ والقوميّ والعرقيّ، وما يزرع التَّفرقة والخوف والاستغلال.

لا يوجد معلّم أفضل من الأدب، فالأدب يدرّب القارئ على أن يرى ثراء الجنس البشريّ.

لا يوجد مثيل للأدب حين يدرّب القارئ على أن يكافئ ويمجّد الفروق البشريَّة باعتبارها ثراء، ومظهرا من المظاهر المتعدّدة للإبداع البشريّ. قراءة الأدب متعة، لكنَّ الأمتع من قراءة الأدب هو أنَّ الأدب مصدر أساسيٌّ من مصادر معرفة النَّاس أنفسهم، وتكوينهم، ونقائصهم، وخوفهم.

لا مجال -عند يوسا- لتحويل الأدب إلى علم، ولن يحصل هذا أبدا؛ ذلك أنَّ الكتابة القصصيَّة -بشكل خاص- لم توجد لكي تبحث في منطقة واحدة من التَّجربة البشريَّة. والكتابة -بشكل عام-وجدت لتثري الحياة البشريَّة باعتمادها الخيال، ولا يمكن اختزال الكتابة أو تجزئتها إلى عدد من القوانين من دون أن تصبح بلا فائدة، ومن دون أن تتلاشى وتضمحل.

حين يُقرأ الأدب ينشأ رابط أخوي بين البشر، وهو رابط يجبرهم على أن يتحاوروا حول أهدافهم المشتركة. يمحو الأدب كلّ الحواجز التَّاريخيَّة بين البشر. ينقل الأدب النَّاس إلى الماضي، وإلى مَن عاش في العصور القديمة، والإنجاز الأعظم للثَّقافة هو هذا؛ أي أن يشعر النَّاس بانتمائهم إلى التَّجربة البشريَّة المتراكمة عبر الزَّمان وعبر المكان.

يستشهد يوسا بالكاتب الأرجنتيني بورخيس؛ فحين سئل عن فائدة الأدب، انزعج وبدا له السُّؤال غبيا إلى حدّ أنَّه أراد أن يقول ” لا أحد يسأل عن تغريد الكناري، ولا عن منظر غروب الشَّمس". ويعلّق يوسا بأنَّ الأدب ليس من نوع تغريد الكناري أو منظر غروب الشَّمس. الأدب إبداع إنسانيٌّ، لم يوجد عن طريق المصادفة مثلما هو تغريد الطُّيور، وجمال الغروب. عن صحيفة الأوان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم