لا تنفصل حياة زوجات الروائيين عن طيف الروايات التي تكتب، لا تنفصل عن مشقات حياة الروائيين وطقوسهم، المسوّرة، ربما، بالمرارة والقدر الملتبس، وربما مفتوحة على فضاءات المتعة والسعادة. يظن البعض أن الكتابة مهد الاخلاق والرقيّ، دون الانتباه إلى أنها قد تكون مفتاح الانتكاسة والقلق والتوجس والفوضى والانفصام... وبالطبع ليس الروائي من جنس الملائكة.

والحال أنه كثيراً ما تنشغل الأوساط الثقافية في الحديث عن زوجات الروائيين، سواء حياتهن أو ثقافتهن أو علاقتهن بأزواجهن، وصولاً إلى سيرهن. ولعل أحدث الزوابع في هذا السياق، ما نشرته عارضة الأزياء بادما لاكشامي، عن طليقها الروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، فإذا كان هذا الأخير يعتبر كتلة ميديائية صاخبة بسبب الفتوى التي أصدرها زعيم الثورة الإيرانية الخميني بإهدار دمه بعد روايته المثيرة للجدل "آيات شيطانية"، فإن زوجته السابقة "تعري" حياته الشخصية وانانيته وذكوريته، وتقول إنه يحتاج إلى مؤاساة كل عام لا يُعلن فيه فوزه بجائزة نوبل (يذكرنا بأدونيس). وهو "رجل متطلب وحسود ولا يهتم بغير نفسه". وأكثر من ذلك أنه "لا يشبع جنسيا".

واتهمت بادما لاكشامي طليقها بأنه سمَّاها "استثماراً سيئاً" بعدما رفضت مغازلاته الجنسية في البداية، وصوّرته زوجاً بارداً قاسي القلب. وحين نُشرت صورتها على غلاف مجلة "نيوزويك"، وجاءت إليه فَرِحة لتريه المجلة علق متذمراً: "إن المرة الوحيدة التي نشرت مجلة نيوزويك صورتي على غلافها هي حين كان أحد ما يحاول أن يضع رصاصة في رأسي". وذكرت لاكشامي أن رشدي لم يكن متعاطفاً معها عندما أُصيبت بمرض سبّب لها آلاماً شديدة في الرحم واضطرت على أثره إلى الخضوع لعمليات جراحية معقدة. ولم يلغِ رحلة عمل له وسافر في اليوم التالي لإجرائها العملية، مشيرة إلى أنه كان يغضب عندما كانت ترفض "معاشرته" بسبب الآلام التي عانت منها.

بين الروائي النرجسي والعارضة "الدلوعة" أكثر من رواية، أكثر من التباس وقناع، الروائي في نظر العارضة أو العكس، خصوصاً حين تكون العارضة مشهورة ومعشوقة وتنتقم، والروائي عابراً للقارات والثقافات وحاصداً الجوائز والأوسمة. ويقول قبل طلاقه من لاكشمي أن الزواج مسألة غير ضرورية في الحياة وأن النساء يرغبن به للظهور بالفستان الأبيض في يوم العرس فحسب.

والحديث عن رشدي يعيدنا إلى الحديث عن زوجات بعض أبرز الروائيين في العالم وأقنعتهن، إذ تتراوح بين الزوجة المطيعة أو التي تبحث عن نفسها أو الشريكة أو التي لا نعرف عنها أي خبر أو القتيلة أو السكرتيرة ومديرة الأعمال. هن لسن على صورة واحدة، لكل واحدة منهن حكاية أو رواية أو سيرة أو ذاكرة؟ سلمان رشدي نموذج راهن للنجومية والصلافة والنزوات المعاصرة (تذكرنا طليقته بمذكرات إحدى زوجات بيكاسو). وعلى مدى العقود السابقة، يمكن استنباط مجلدات مثيرة عن زوجات الروائيين. زوجة تولستوي مثلاً أنجبت له ثلاثة عشر ابناً، ونسخت له بيدها "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، ثم انقلب عليها، وبدأ يخفي عنها ما يكتبه. كانت صوفيا أندريفنا صغيرة، تزوجها تولستوي وهو في ضعف عمرها تقريباً، لقد سئم تولستوي شعوره بالمراقبة وكسر الحميمية بينه وبينها أوراقه ورغبة الزوجة في وجود دور لها، بعد 48 عاماً من الحياة المشتركة. وفي ليلة السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1910، استيقظ مفزوعاً. فزوجته، التي أحبته وكرهته كانت تقلب من جديد في أوراقه. حينها قال إنه لم يعد يحتمل. أما آنا زوجة ديستويفسكي فكانت أقرب إلى مديرة أعمال، وتحملت مقامرات زوجها الرهيبة، حتى وصل به الأمر إلى رهن ثيابها. في كل الأحوال كانت حياة ديستويفسكي حقل تجارب نفسية في كل المجالات، وزوجته متماهية معه إلى درجة التقديس، تنتظر منه أن يكون اسماُ لامعاً في المستقبل، كأنها تراهن على الأدب قبل كل شيء وتنسى حياتها.

لاحظ أكثر من باحث كاتب دور زوجات الكتاب الروس، فقد عانت زوجة "المنشق عن الاتحاد السوفياتي"، سولجنتسين أكثر مما عانى من اضطهاد وملاحقة المخابرات السوفياتية، ولم تتهاون يوماً واحداً في طباعة أعماله وتهريبها وحفظها وأرشفتها. وعندما أبعد اختار العزلة في الريف الأميركي. سوف يقول سولجنتسين إن زوجته كانت أفضل رئيس تحرير عرفه في حياته. وكان نابوكوف صاحب رواية "لوليتا" يقول: "من دون زوجتي، لم يكن ممكناً أن أكتب كتاباً واحداً".

ثمة وجوه أخرى لزوجات الروائيين في العالم تفرزها سلوكيات الروائيين، تشارلز بوكوفسكي السكير والفظ والعنيف والشرس، اشتهر بعلاقات مع عدد من النساء اللواتي يتحوّلن إلى كلمات في رواياته، كلمات ليست كالكلمات، هن أشبه جثة لعبور "الأفكار" أو حقل تجارب للتخييل، حتى أنه يصوّر معهن بطريقة ماجنة. لم تكن النساء اللواتي دخلن حياة بوكوفسكي يعرفن أنه كان يستخدمهن كمادة لرواياته، فهو لم يطلب الإذن للكتابة عن حياتهن الجنسية البورنوغرافية معه... همنغواي كان ذكورياً ومتهما بانه "زير نساء"، تزوج أربع مرات، وقيل إنه كان يتنقل من امرأة إلى أخرى طوال حياته إلى جانب صداقاته المعروفة لعدد من الممثلات المشهورات مثل إيفا غاردنر وانغريد برغمان ومارلين ديتريش... عن زوجاته الأربع قال‏:‏ "عندما كنت شاباً، كان آخر ما أفكر فيه هو الزواج‏.‏ لكني عندما تزوجت وطلقت وجدت الحياة من دون زوجة مستحيلة‏"، وكان عرضة للنقد من الحركات النسوية.

ونورمان مايلر يلقبونه "الولد الرهيب"، ولا يشبهه في غرابة مزاجه سوى سلفه همنغواي. تزوج ست مرات، وله ثمانية أولاد. قتل زوجته الثانية بطعنات سكين، لكن أطلق بعد فحص نفساني، وبقي فترة تحت المراقبة. وهذه الحادثة المؤلمة والقاسية ساهمت في إطلاق حملة نسوية واجتماعية شرسة ضده تركت بعض التداعيات على مسيرته ككاتب ومناضل.

الروائي الأميركي وليم بوروز صاحب رواية "الغداء العاري" أقدم في سنة 1952 على قتل زوجته جوان بينما كان يلاعبها بلعبة "وليم تل". وضع على رأسها قدحاً من الشمبانيا وأطلق عليه النار، فأخطأ القدح وأصاب جمجمتها برصاصة قاتلة.

هذا غيض من فيض عن أحوال زوجات الروائيين اللواتي، يشكلن مادة دسمة ومستعادة للكتابة، هن الأكثر قدرة على رواية حياة الروائيين بتجرد، هي أحوال متناقضة ملتبسة مبهمة واضحة مازوشية غرامية، تجعلنا نستعيد ما كان يقوله الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل الذي اعتبر إن أسعد الزوجات هن زوجات العلماء، وأن أتعس الزوجات هن زوجات الأدباء والفنانين! يرى راسل أن الأدباء هم- في الغالب- مزاجيُّون ومتَقلِّبون، ويعشقون النساء. وفوق هذا هم فوضويون.. ومغرورون.. ويريدون من المرأة أن تتغنّى بمواهبهم، وأن تكون مجرد عصفور جميل يغرد لهم، وفي حدائقهم، وهم ينافسون المرأة في الحديث عن أنفسهم، وهم فوق هذا مفلسون. عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم