ما إن يأتي أحد على ذكر الكاتب المصري علاء الديب، حتى تستدعي الأذهان صورة ذلك الصانع الماهر الذي ينهمك في جلسته الطويلة بنسج سجادة يدوية، متينة الخيوط وبديعة الألوان، غير عابئ بخطوط الإنتاج الآلي وماكيناتها التي تزمجر بجانبه، وتغرق السوق بما صنعت. مضى الديب، وفي كفيه أعمال تقل عن عدد أصابع يديه، لكنها وضعته في مصاف الكبار، كما هي حال الطيب صالح والمكسيكي خوان رولفو، لكنه زاد عليهما بأن فتح عقله وقلبه لآخرين، أدباء وكتاب ومفكرين وباحثين، يلتهم ما أبدعوه أو ألَّفوه وصنفوه وأعدوه، ويخرج رحيقاً صافياً في باب صحافي، ظل يكتبه عقوداً بعنوان «عصير الكتب»، ليلفت الانتباه إليه بشدة، كواحد من أبرع المحتفين بكل كتاب جديد يقع تحت عينيه، ويروق له، أو يدرك أنه يهم القراء. في أعماله الروائية والقصصية، ضرب الديب مثلاً ناصعاً في القدرة على الاختزال والإزاحة والتكثيف، فجاء نصه شاعرياً خالياً من ورم الكلمات، التي لا تضيف جديداً إلى المعنى. وفي هذا كان الديب هو التزاماً بوصية يحيى حقي، الذي اشتغل على تخليص السرد العربي من أعباء التكرار والاجترار والانجرار وراء السجع والمحسنات والمترادفات التي لا تؤدي إلى تقدم النص والمعنى، بل تخلق نوعاً من ركود السرد، وتتعامل مغ اللغة ليس بوصفها وعاءً للمعاني إنما مجرد قلائد زينة. تظهر هذه المهارة في شكل واضح في ثلاثيته: «أطفال بلا دموع»، و»قمر على مستنقع»، و»عيون البنفسج». وعلى رغم أن الديب استعمل فيها تقنية لورانس داريل في «رباعية الإسكندرية»، بحيث تعاد الحكاية نفسها بألسنة متعددة، ومن وجهات نظر مختلفة تماماً، فإنه أشعرنا مع كل جزء بأننا أمام حكاية جديدة، تجنّب فيها التكرار، واستغنى عن التفاصيل، واستعاض عن الحوار المتعدد بسبر أغوار نفوس أبطاله، واستغراقهم في استبطان أشبه بمناجاة دائمة، والوقوف على الحدّ الفاصل بين التذكّر والتخيّل. تعب الديب على نصه، وظني أنه كتبه غير مرة فهذَّبه وجعله يصل إلى المعنى من أقرب الطرق وأجملها، لينتهي إلى هذا التكثيف الشديد، الحافل بالصور والمفارقات والشاعرية والمعاني الفلسفية والنفسية والاجتماعية العميقة. وربما هذا هو الذي جعله يتعامل مع الكتابة بشعور تختلط فيه المحبة بالهيبة، وتتصارع فيه الرغبة في الانطلاق مع الميل الصارم إلى التمهل، وبدا الديب يتصرف وكأن الزمن طوع بنانه، يتحدث مع من كانوا يطالبونه بعمل سردي جديد عن أن رأسه مشحون أو مسكون بقصص وحكايات لا بد ان سيكتبها، فينتظرونها، لكنه كعادته كان يهرب في نصوص غيره، يتذوقها ثم يكشف فيها عن درر مخبوءة، تكون أحياناً غائبة عن آخرين، بل عن كاتبيها أنفسهم، لينثرها بمحبة ظاهرة فوق السطور. كان من هؤلاء من يطلب هذا السرد الشاعري العميق كما في الثلاثية، ومن يطلب كتابة أخرى على غرار روايته الأطول نسبياً «زهر الليمون»، التي نذهب فيها مع بطلها، عبد الخالق المسيري، في رحلة قصيرة مفعمة بالانكسارات والأحزان التي تبدأ من غرفة صغيرة فوق سطح بيت قديم في مدينة السويس وتنتهي في القاهرة، وتجسد عبر هذه «التغريبة الطارئة» محنة جيل الخمسينات والستينات في مصر، حيث الأحلام الكبرى المجهضة، وعودة الشعور بالاغتراب، وطرح التساؤلات المركبة عن سبل الخروج من ضيق الآني إلى براح الآتي. وبذلك، فالرواية تقدم خبرة إنسانية حية وعميقة. لكنّ الديب كان يستجيب بطريقته الخاصة، فكتب «وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصري»، الذي يشكل شهادة جارحة وبارحة على ثلاثة عقود مصرية (1952 - 1982). وهو يقول عن هذا الكتاب: «هذه الأوراق أراها، محزنة، محيرة، وكئيبة. لكنها صادقة، صدق الدم النازف من جرح جديد. هي أوراق حقيقية، كان من الضروري أن تُكتب؛ لأنها كانت البديل الوحيد للهروب مع أي شيطان أو الانتحار». ويحاول الكتاب أن يجيب عن أسئلة من قبيل: «ماذا حدث لنا في تلك السنوات؟ ماذا حدث للناس وللبلد؟ من أين لإنسان يشعر ويفكر أن يحتمل في حياته كل هذه التقلبات والتغيرات؟ أليس من حق الإنسان أن يلتقط أنفاسه، ينعم بحياة مستقرة بعض الشيء، هادئة بعض الشيء، مفهومة بعض الشيء؟». ولأن الديب كان يميل إلى التأمل الطويل والتبصر ويؤمن بدور الحدس شأنه شأن الخبرة والوعي في حركة الحياة، حرص على أن يترجم كتاب «الطاو» للفيلسوف الصيني لو تسو، وهو يحوي الفلسفة الطاوية الغارقة في التأمل والصبر والحكمة والبحث الدائم عن الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي. ويقول الديب في مقدمة الكتاب: «أقدمتُ على ترجمة هذا النص في فترة ارتبكت فيها حياتي: هزائم خاصة، وهزائم عامة، وارتباك في الفكر والسلوك. وكان لهذه الترجمة تأثيرها: لا أقول عالجت الموقف، ولكنها أضاءت بعض جوانبه، ودعتني إلى الاعتدال والبساطة في تناول الحياة». ظل الديب يطرح التساؤلات حول مأساة جيله، والجيل الذي أتى بعده، فتراكمت الأعباء وزادت الأوجاع، حتى قامت ثورة يناير، فتفاعل معها كتابه، على رغم مرضه الشديد، وربما رأى فيها جواباً واضحاً عن الأسئلة التي طرحها قبل الانزلاق إلى المنحدر. لكنه راح يتابعها بأسى وهي تراوح مكانها، من دون أن يفقد الأمل بأن الشعب سينفخ في أوصالها من جديد، فتتجدد وتقوى، جارفة أمامها الفساد والاستبداد. ولكن ها هو الموت لا ينتظر حتى يغيّبه قبل أن يرى حلمه يتحقق. وإن كان ثمة من وعى درس الوقوف قبل المنحدر، ويصرّ على ألا ينزلق فيه أبداً.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم