مات امبرتو ايكو فيلسوف الخديعة، الروح الانسانية الخالدة.. ماتت القصص والحكايات والسرديات ولم تمت.. مات الجنون البشري ولهفة الاشتياق للغرابة والظنون والنهايات المفتوحة.. في أخر اعماله التي قرأتها "مقبرة براغ" يطرز إيكو عالم الزيف ويفضحه، يعلمنا أن الكتابة هي اغتيال المظنات في سبيل أن نهيء العالم ليكون مكانا أفضل للحقيقة إن وجدت ذات يوم.. رسم لنا دروب الملهاة وغزلها في مأسأة وجودنا.. نحن التائهون.. وداعا اسم الوردة.. وداعا يا جزيرة اليوم السابق. وداعا يا باودولينو. قبل عشر سنوات. تكلم ايكو عن النص المستقبلي المترادف مع الانترنت وعن رواية المستقبل، بانها نص تشعبي يشبه الحكايات التراثية المتناسلة والشعبوية، وقال ان تولستوي القادم هو أنا وأنت.. اسمحوا لي أن أعيد  ذلك المقال الذي كتبته ذات يوم..

إمبرتو إيكو: تولستوي الزمن القادم أنا وأنت!

سؤال تقليدي ظل الجميع يرددونه «هل سينتهي زمن الكتاب مع التوسع الهائل في شبكة الإنترنت والاقراص المدمجة؟». ربما افكار عديدة حاولت الاجابة عن السؤال، تظل هي مجرد افكار، فالنتائج الحتمية هي ما سيكشفه المستقبل. لكن الرؤية عند امبرتو ايكو تبدو مختلفة، لا تقدم اجابات، أو تجزم تماما بما سيؤول اليه الحال، تقول ان واقعا جديدا سوف يرسم آفاقه تجاه معرفة جديدة بالعالم، لا تنسف الكتب، ولا مفهوم التأليف، وانما تعمل على تشكيل رؤيتنا للكتابة والنص بشكل جديد.

ما طرحه امبرتو إيكو صاحب «اسم الوردة» مؤخرا في محاضرة قدمها بمكتبة الاسكندرية يمكن ان يثير جدلا، وما سيفعله أكثر أنه سيحفز الكتّاب لاعادة النظر في مفاهيم الادب / النص / الثقافة / التأليف ،، الخ، بأبعاد أعمق اذا ما اردنا بحق ان ندخل «زمن النت». إذا كان تولستوي ككاتب عظيم بلا رأفة، قد ولد هكذا بمجلداته الضخمة، وقدرته على اختزان العالم في ذاكرته العجيبة، ثم اعادة كتابة العالم لنراه وفق ما يرى، فإن تولستوي وفق ما ذهب اليه ايكو سيولد من جديد بشكل مختلف، وسيكون بامكان أي إنسان مغمور في بقعة نائية من العالم أن يصبح هذا الـ «تولستوي» ببساطة، وهكذا يمكن تلخيص مجمل تاريخ المستقبل القادم لزمن الكتابة الجديد. يقول امبرتكو ايكو في محاضرته المخيفة، محاولة منه للجواب عن السؤال حول مستقبل الكتاب «الكتب يجب ان تحيا كمتاحف تحفظ الماضي». في البداية تبدو المسألة مفزعة؛ لأن ايكو حكم بموت الكتابة على الواح الطين والمسلات لتصبح اليوم جزءا من الماضي، لكن عندما نبحر مع الافكار نجد ان الامر ليس بهذا الحكم المباشر. عندما ظهرت الكتابة لم تقتل الذاكرة، قد تكون قلصت من قدرتها، كذلك عمل الكمبيوتر بنفس المستوى، هناك دائما دفع تجاه تشكيل تحرر جديد، يحكم بأن هذا الجديد سيعمل على تحدي الذاكرة، لكنه سيزيد من حدتها كما يقول ايكو ، ولن يدمرها. يخلص الى انه ثمة خوف من ان يؤدي اي نجاح تكنولوجي الى قتل شيء كنا نعتبره في الماضي غاليا ومثمرا.

ما يلفت النظر ويستدعي التوقف في اطروحة اميرتو ايكو يتعلق بالاحتمالات المفتوحة فيما اطلق عليه «نصوص الروابط الالكترونية»، التي يرى انها الاهم في دائرة التفكير، من الانشغال والخوف على مآل الكتاب ومستقبله. ينطلق ايكو من فكرة بسيطة تعيد التفكير في شكل الكتاب التقليدي، المتصفح من صفحة لأخرى، ليرى ان هذا الشكل في طريقه للانقراض، اذا ما كان التصفح ممكنا على نحو جديد وسهل، ويطرح البديل في الروابط الالكترونية التي «تمثل شبكة متعددة الابعاد او متاهة يمكن لكل نقطة فيها او لاي طرف ان يلتقيا مع اي نقطة اخرى او طرف آخر».

بشكل مباشر سيتحول النص الى نظام، وهنا ينبع الفرق المهم للغاية في منظور ايكو، فعندما نتحدث عن نظام سينتفي كثير من تقاليد الماضي، ستموت فكرة المؤلف الواحد، ستولد ذاكرة جماعية للمثقفين تندمج مع ذاكرة المستقبلين للنصوص، سيكون ممكنا لأي انسان ان يضيف ويحذف، في رؤية كلية سيتحول النص من المحدود الى المفتوح بدرجة تماثل الحكايات الشعبية في ذاكرة الشعوب.

يصف ايكو المنتج في ظل طرحه بأنه سيؤدي لفضاءات غير مسبوقة، تقول إن القصة يمكن ان تصبح اكثر ثراء عن طريق اسهامات متتالية ومتعددة، يقوم بها كتّاب مختلفون، ويتم ذلك بصورة مزدوجة، او بشكل ثلاثي الابعاد، وفي اصطلاح ثان يجاور تسمية «نصوص الروابط الالكترونية»، يبتكر ايكو فكرة «اللعبة الأدبية». سيبدأ الامر كنوع من اللعب او التجريب، لكنه سيتحول لواقع ماثل، علينا أن نعترف به في وقت صيرورته. يقول ايكو «هذه الظاهرة وجدت في الماضي دون ان يهز ذلك مفهوم التأليف او التراكيب»، ويضيف «هذه اللعبة الرائعة التي يمكن ان نمارسها من خلال شبكة الانترنت لانتاج قصص جماعية لا نهائية محدودة وغير محدودة يمكن ان تحرمنا من مفهوم الادب الذي يكتبه الادباء ومفهوم الفن بصفة عامة». بمثل هذا التقرير الصعب، ينسف ايكو ما ظل يعشعش بأذهاننا من اعتماد شكل شبه نهائي للنصوص، ومفهوم ثابت لرؤيتنا لفكرة المؤلف.

الفكرة لدى ايكو اشبه بالنظام «السميوطيقي»**، الذي سيمنح الكتّاب والفنانين تحركا نحو انتاج مجتمع أكثر تحررا وأكثر حرية. يقول «سيوجد فيه الابداع الحر جنبا الى جنب مع تفسيرات النصوص المكتوبة الموجودة بالفعل، لكننا لا نستطيع ان نقول اننا قمنا باستبدال شيء بشيء آخر، فلدينا الشيئان» لكن هذه الحرية وبحكم آخر من احكام ايكو اشبه بوهم بالحرية والابداع.

يذهب ايكو الى ان حلم انتاج نص مفتوح يمكن للقراء ان يعيدوا تركيبه بصورة لا نهائية، لا محدودة، ليس حلما جديدا، لقد فكر مالارميه في هذا الامر واخترع نظاما تركيبيا عن طريق تأليف القصائد باستخدام عدد محدود من السطور الشعرية، وجرب في الستينيات كتابة رواية كان يمكن لصفحاتها ان ترتب بطرق عديدة لتصنع قصصا مختلفة، بيد ان البحث الغائر في جوهر الحلم يثبت لنا ما ظل الانسان يحترفه منذ آلاف السنين، عندما ابتكر «الابجدية»، واستخدمها لانتاج عدد لا متناه من الكلمات، والجمل، والنصوص والافكار، وهذا ما حدث كما يرى ايكو منذ عصر «هوميروس» الى يومنا هذا.

تبدو هذه الحرية الجديدة في ميلاد نصوص نظامية، وهما، مقيدة، لسبب يطرحه ايكو في القدر المتاح فيها، يراه متمثلا في تحريك التراكيب المعدة سلفا في اطار عدد كبير من الاحتمالات، لكن هل يستطيع الكاتب ان ينفي التراكيب، بنفس المستوى هل نجح الانسان في نفي الابجدية، ليكتب نصا معلقا كما يقول فلوبير، لا تستوعبه الارض ولا السماء، او المجرات جميعها؟

كل كتاب في عصرنا هو نوع من القمع الذي حدد سلفا وقرر مصيره من قبل مؤلفه، «علينا ان نقبل بقوانين القدر وان ندرك اننا لا نستطيع تغيير المصير الذي قد تحدد بالفعل» كما ذهب ايكو، وذهب ينفي فكرة الكتاب القمع بالروابط الالكترونية التي تمنى ان تكون نشاطا تجديديا في مدارس المستقبل.

في نص مثل «الحرب والسلام» نواجه باحتمالات محدودة لخيالنا، وبالقوانين الصارمة التي تحكم الحياة والموت. هل سيكون بمقدورنا ان نبدل الاحتمالات وان نغير القوانين؟ التوقع «نعم»، وفق اطروحة ايكو، فإذا كان المستقبل، لا يتقبل «ناتاشا» متوددة للكاذب المخادع «الامير اندريج» في الرواية «الحرب والسلام»، فيمكنه ببساطة ان يغير المصائر، سيكون التاريخ في مجمله قابلا للحذف والاضافة، او ربما الرمي في سلة مهملات جهاز الكمبيوتر، ليعاد تركيبه من جديد، لن تخسر شكسبير او المتنبي، لكن سنعيد انتاجها وفق لعبة الادب في «زمن النت».

يقول ايكو «النحو والمعاجم والموسوعات ما هي الا نظم، فإذا استخدمها المرء انتج كل النصوص التي يرغب في انتاجها، ولكن النص ليس نظاما لغويا او موسوعيا، فالنص يقوم بتقليص هذه الاحتمالات اللانهائية اللامحدودة ليصنع عالما مغلقا»، ولكن في اطار نصوص الروابط الالكترونية ستختلف الرؤية تماما.

نعود لما بدأ به ايكو محاضرته «هل ستؤدي الوسائط الالكترونية الجديدة الى موت الكتاب او انقراضه؟ هل ستؤدي شبكة الانترنت الى موت الأدب؟ هل ستقضي حضارة النصوص ذات الروابط التي نجدها على شبكة الانترنت على فكرة التأليف؟»، انتهت التساؤلات التي طرحها ايكو، لتظل مطروحة من جديد، مفتوحة على كل الاحتمالات.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم