لا يتقيّد الكاتبُ الأميركي تشارلز بوكوفسكي بتقاليد أو أعراف أدبية، ولا يتبع في أسلوبه أيّ تيار أو مدرسة معيّنة. لكنّ ذلك لا يعني عدم تأثّره واستفادته من الروائيين الذين سبقَ أن رسَموا شكلاً جديداً للرواية، أمثال أرنست همنغواي، فولكنر، جاك لندن، وهنري باربوس.

أضاف بوكوفسكي بدوره إلى ما راكمَ من تجارب روائية، بما أحدثَه من كتابة صريحة وجريئة وعدم احترازه في تناول الموضوعات الحسّاسة، معلناً أنَّ الكتابة الحذِرة هي كتابة ميتة. أضِفْ إلى ذلك أنّ بوبكوفسكي يستخدمُ لغة رشيقة غير متخَمة بالكنايات، بل ينقل تلك الألفاظ والمصطلحات الشائعة في قاع المجتمع إلى فضاء رواياته، ويأتي كلّ ذلك ممزوجاً بالسخرية والدعابة.

تجربة واقعية

يوفّر بوكوفسكي عناءَ البحث والتقصّي عمّنْ يسعى للعثور على الروابط بين حياة الكاتب الخصوصية وأعماله الروائية، إذ يعترف بأنَّ 93 في المئة من مؤلّفاته ما هي إلّا نتاج ما عاشَه وتجربتِه في الحياة. لذلك، فهو يفتتح مشوارَه الروائي بكتابة رواية عن السنوات التي عملَ فيها ساعياً للبريد في لوس أنجلوس، إذ يَذكر حيثيات هذه المهنة وخلافات مضنية مع مدراء العمل وعلاقته مع الذين يترقّبون وصول الطرود والرسائل وشغفَه بالمراهنة على سباق الخيل. كما يتعرّى بوكوفسكي في رواية «نساء» من كلّ خصوصياته ويكشف تفاصيلَ علاقته الحسّية مع النساء اللواتي تعرّف إليهنَّ.

بحيثُ تطغى صورة المرأة النمطية على مساحة هذا العمل، ويُسرف الراوي الذي هو المؤلف الضمني أو الأنا الأخرى لبوكوفسكي بدون احتشام في إيراد التفاصيل المرتبطة بحالات إيروتيكية بطريقة ابتذالية صادمة. وإلى جانب المرأة، الكحول حاضرة في عالم بوكوفسكي، لا بل تنافِس الأنثى، وهي تَغار من إدمانه على الخمر وتفضيله الخمر على النساء إذا خُيّر بين الاثنتين.

يُحافظ بوكوفسكي في عمله الأخير على خصائص أسلوبه واشتغالاته على تلك المسائل التي ربّما لا يغامر غيره في تناولها، لكن ما يعطي طابعاً مختلفاً لرواية «أدب رخيص» هو الدخول إلى عالم اللامعقول، إضافةً إلى ما تشعر به من رؤية شديدة السوداوية تتحكّم بحركة هذا العمل.

حبكات سوريالية

بخِلاف أعماله الأخرى التي لا توجد فيها ثيمات واضحة، نصاحب الراوي في «أدب رخيص» وهو يبحث عن آليات يفكّ بها جملةً من الألغاز والأحاجي المتداخلة. يعمل (بيلين) محقّقاً وهو مكلَّف بحلّ قضايا معقّدة، كأن يتعقّب أثر شخص قد مات قبل عشرات السنين، وعندما تراه السيّدة (موت) ترغب في التأكّد من هويته حيث تعتقد بأنَّ الرجل الذي قد صادفَته هو الروائي الفرنسي سيلين.

ويبدأُ المحقّقُ تحرّياته عن هذا الشخص إلى أن يلتقي به في مكتبة (ريد). يتداخَل هذا الملفّ مع ملفّ (باس) الذي يحاول أن يتخلّص من الشكوك التي تشوب علاقتَه بزوجته، إذ لديه هاجس بأنَّ (سيندي) تخونه.

ومن ثمّ يجد نفسه أمام قضية غريبة وهي مطاردة كائن فضائي (جروفرز) الحانوتي، وهو يفسّر الأمر بأنَّ هذا الكائن يحاول الاستفادة من الجثث التي يحتفظ بها الحانوتي بحيث تتحوّل إلى مسكن لتلك الكائنات الوافدة من الفضاء إلى الأرض. هنا تكتسي القصّة طابعاً عجائبياً وتقترب من أجواء عالم إدغار آلن بو، لا سيّما حين يبدأ المحقّق بتفتيش النعوش ويفحص الجثث، فإذا به يرى نفسَه في أحد النعوش.

ونلمس في قرار الكائن الفضائي أنّه أصبح مقتنعاً بضرورة تركِ الأرض، إذ لم يعُد بمقدور الكائنات الفضائية تحمّل ما تكدّسَ على الأرض من بشاعة وكراهية وتزيّف. ومع أنّ بوكوفسكي لم يُعرَف بأنّه كان عبثيّاً، بل تفهّمَ الحياة كمكسب لا يصحّ التفريط فيه، غير أنَّ ثمّة عبارات وجُمل تنمُّ عن ما ينتابه من يأس وتشاؤم، ومن حال التنافس المحموم التي جعلت حياة الإنسان حلبة للمسابقة. فهو يقول ساخطاً على لسان الراوي: «كنّا جميعاً نتسابقُ على الكثير من اللاشيء يوماً وراء يوم».

الفكاهة كنقيض لليأس

لا ينفصل العمل الروائي عن عنصر الفكاهة والدعابة، وستظلّ الكوميديا جزءاً أساسياً في بناء الأعمال الروائية، وذلك تقليد لا يتخلّى عنه معظم الروائيين، منهم بوكوفسكي الذي يحارب اليأس والقبح من خلال المواقف المُضحكة.

الضحك بوصفه وسيلةً لإظهار السلبيات بعيداً عن استخدام اللغة المتخشّبة والمواعظ المملّة، فهو يكشف عن سرّ ما تتمتّع به حسناوات هوليوود من نعومة البشرة بأسلوب ساخر، كما ينبّه إلى وسائل الخدعة عند الشركات التجارية وهي تحضّ الإنسان على المراهنة بروحه مقابل لا شيء. بذلك، يتحوّل الإنسان إلى كائن ينهشه القلق والخوف. لذلك، فإنّ بوكوفسكي يميل في عمله الأخير إلى التشاؤم حيثُ يَعتبر أنّ كلّ يوم جديد في حياة الإنسان هو بمثابة مواجهة جدار أصمّ.

بساطة عميقة

يستفيد بوكوفسكي من تقنيات سردية جديدة لبناء مشاهد روائية، كما يفضّل الجُمل المختصَرة والحوارات غير المطوّلة، ولا يمانع في استخدام المونولوغ الباطني. وهو تعبيرٌ عن الفكر الأشدّ حميميةً والأقرب إلى اللاوعي. فضلاً عن ذلك، يتّجه بوكوفسكي لتقسيم رواياته إلى فصول مرقَّمة من دون أن يضع عناوين ثانوية.

ويلجَأ إلى انتقالات سريعة ويترك الثغرات الزمنية للقارئ، حتى يترك لديك انطباعاً أنك تشاهد أفلاماً سينمائية، خصوصاً في رواية «أدب رخيص» حيث إيقاع التطوّرات المتسارعة يولّد لديك رغبة عدم انقطاع عن متابعة الأحداث المتتالية.

ربّما ما يتلقّاه القارئ في روايات بوكوفسكي يبدو بسيطاً، ويشعر بأنَّ ما يصِله ليس إلّا تصويراً شِبه تسجيلي لحياة كاتبِه، غير أنّ ما يضيفه إليك بوكوفسكي هو رؤية الحياة من مستوى جديد ومن زاوية لا تَحجب الغرائز وأنماط الحياة التي قد نتجاهلها للحفاظ على نقاء الصوَر السطحية.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم