"مرسال الغرام" قد تكون الرواية شكلاً من أشكال الحقيقة، تحرر الكثير من أسئلة الحياة، وتطلقها في فضاءات الواقع، أو قد تكون سؤالا او هاجسا، يؤرق الكاتب، فيصنع منه عالما من التساؤلات الكبرى، يضفي عليه خيالاته، وبحثه الأزلي عن عالم يشبه أحلامه. أعترف أنني لا أتقن فن النقد، ولا السرحان وراء البنى السردية التقليدية للنقد الروائي، ربما يجدر بي القول، إنني أرغب بأن أطيح، بكل الحواجز التي قد تعيق العمل الإبداعي، لا أنبش في التفاصيل والثغرات والخبايا واللغة وووإلخ، ولا أشرّح جسده على مذبح الواقعية، هذا قد يستلب من سره، ويسرق من وهجه. هي كالوقوع في الحب تماما، حالة رائعة، نوع من الغرام لا تحايل فيه، تذهب مغمض العينين، مستعذبا كل ما يحيط، ومستبعدا كل القباحات، عندما انغمس في قراءة الرواية، أقع في حبها او لا أقع، أبحث عما تثيره في نفسي من فضول، ومن توق ملح للمضي أكثر، أبحث عن مكاني بها ومكان الآخرين، وما تعنيه لي من دهشة، وما تثيره من لهفة وإلحاح، لتذوق كل كلمة وكل حدث، والالتحام بروحها للوصول الى النهاية. وقد أحببت هذه الرواية ووقعت في غرامها، اذا كان هناك من سؤال! مرسال الغرام، وهو حقا عنوان ليس جميلا فقط، بقدر ما يثيره من فضول وما يعنيه كعنوان ملتبس، لرواية من خمسمائة صفحة، أعيدت طباعتها للمرة الثانية. من هو مرسال الغرام! هو/ الراوي / والشاهد على الأحداث، الشاب الهامشي، الكسول، قد تكون اللامبالاة الصفة الأكثر التصاقا بشخصه، وقد يكون مجرد / كومبارس/، في لعبة الرواية، لكنه يجد نفسه فجاة يقتحم عوالم غريبة، ويواجه أحداثا استثنائية، تمور بالحركة، وتتقد بالغرابة، والزحمة والفوضى، وهكذا تنتهي حياة السكون لديه، ويصبح لاعبا رئيسيا، قد يسرق الوهج والحب من لاعب الرواية الأساسي محمود رشوم، وينخرط ويؤثر في حيوات أناس آخرين، أهمهم الممثلة ناريمان، ليكون مرسال الغرام بينهما، يحمل إليها سيناريو رشوم، السيئ الصيت، وعد الحب المشروط، ويتورط في حبكة غير متوقعة، تقوده الى الخلاص من مشكلة العجز الجنسي، على يد ناريمان، التي استطاعت أخيراً أن تشعل نار الغرام والرغبة في جسده، والتي فشلت كل محاولاته السابقة، للتخلص منه، مع المرأة اللطيفة / لطيفة/ التي تبيع جسدها مقابل المال. من أشعل وقدة الحياة في هذه الشخصية الخامدة، هو محمود رشوم، الجار العاشق، والشخصية الحارة الملتبسة، الفاعلة والمنفعلة، الذكي المتلاعب المخاتل، من اخترع أسطورة الأصوات، وعاش هوس الميكروفونات والتسجيلات، ملمحا الى استطاعته الوصول، الى لحظة الصدق في دهاليز الكذب والاحتيال، مستخدما نغمة الصوت وبحته وغنته وصعوده وهبوطه. يعذبه نار العشق، ويؤرقه حرقة الانتقام من الممثلة ناريمان، الرافضة لحبه، والغارقة في إغواءات الطامعين في جمالها، اللاهثة وراء المجد والأضواء والمال والمنافسات. يُفبرك قصة /سيناريو/ ملغز، ليستعيدها إليه. هذا السيناريو الذي لعب الدور الأهم في الرواية، وكان الخيط الرفيع، الذي شد الأحداث والشخصيات إلى بعضها، لتبقى لصيقة دايما بخط الرواية العام . وقدمه للمثلة هدية الحب والانتقام هي مزيج غني ورائع من التضادات والتناقضات، /الواقع الملح، و الفانتازيا والخيال/، /الألم، والسخرية من الألم /العشق والغرام، والثأر والانتقام/، القدر، والاحتيال/، /عالم البسطاء المسحوقين، وعالم المال والفساد والوصولية/ أصعب مافي هذه الرواية أحداثها المتشابكة، واستحضار زمنين متباعدين، وقصة تعيش داخل قصة ضمن خطين دراميين، يسيران بشكل متوازي، كل خط له عناصره وأدواته، بحيث لايطغى احدهما على الاخر، ويمس وحدة وروح الرواية استحضار زمن آخر، ورحلة عبر الزمن، زمن أم كلثوم، من خلال جمعية متخيلة، أطلق عليها اسم / جمعية عشاق ام كلثوم / جمعية مموهة غريبة، ينتحل أصحابها شخصيات زمن غابر، ويعيشون وهم أحداث ماض غني بالفن والحب والدسائس والفتن. لماذا زمن أم كلثوم؟ القاهرة في الأربعينات، والعائلة المالكة وفضائحها، وأم كلثوم الفنانة العظيمة، و سيدة الصالونات والدسائس، واشعال نار الحب والغيرة والذل بين أحمد رامي والقصبجي، ليقدموا لها اجمل القصائد، وأحلى الألحان، وتتربع هي ملكة وحيدة متوجة على عرش الفن. ثم العلاقة مع عبد الناصر الابن البار والقوي لمصر وهزيمة حزيران، وربط الهزيمة، بآهات وسلطنة الطرب والدموع والذل آنذاك لتخدير الشعب العربي الأحداث مشبعة بالدلالات والرموز؟ والجرأة في وضع النقاط على الحروف. يبدو أن هذين الزمنين المتباعدين، زمن ام كلثوم واحمد رامي والقصبجي، وزمن الحاضر، ليس بغريب احدهما عن الاخر، تربطهما ذات المصائر الانسانية والنوازع والسهرات والكيد والحب والانتقام، وكأن الكاتب أراد ان يقول، قد يتغير الزمن، لكن الانسان ومداخلاته ومخاتالاته ودخائله، لاتتغير لكن الحدث الأهم والأبرز، هو المسار الذي سار مع خط الرواية منذ البداية، وكان موجودا دائما كخلفية لاتغيب، للأحداث والأشخاص والمكان والزمان، أراد الكاتب بجرأة وقوة، ولكن بمرارة، الحديث عنه مطولا، هو الزمن الحاضر، الزمن السوري تحديدا، أراد الكاتب ان يضع يده على الجرح، أن يشير اليه بجلاء، دون مواربة، استعمل اللغة الواقعية غير المنمقة، لغة السرد المباشر وأحيانا / الدارجة/ بل وأحيانا الهابطة، كل ذلك للتماهي والانجراف العارم مع شخصياته، وربما اعتقدنا احيانا أنه وقع في فخ التطويل الممل، إلا أنه سرعان ما ندرك بوضوح، إن كل ذلك كان ضروريا، ليكون وفيا للنص، وليشرح لنا بدقة وتفصيل وصبر، ويدخلنا ويخرجنا في متاهات ودهاليز واقنية وأقبية، ودوائر تدور فيها، ثم تعود صاغرا الى المركز، الى لُب المشكلة: الفساد. كل شيء يباع ويشرى بدءا من الإنسان والضمير والحب والأحلام والعلم والفن والمبادئ، وليس انتهاء بالأرض والوطن والمصير يبدأ الإنسان بريئا، ثم يعوم ويتخبط، في مستنقع الأيديولوجيات المستعارة، وينتهي وقد انتهى هذا الواقع المر الذي تخبط به المجتمع السوري، مجتمع الرشاوي والمخبرين، مجتمع رجال المال والسلطة، والصفقات المشبوهة والمشاريع المموهة، السهرات والنساء والجنس، والدهاليز الخفية، والفخاخ المنصوبة في كل درب، كان له رواده الكثر وأسياده المنتمين إلى أسيادهم، وهكذا هل كان الكاتب يقدم لما سيحدث في السنوات القادمة؟ يشعل كل الإشارات الحمراء، ويعلن حالة التأهب القصوى؟ الرواية متعبة ربما هذا هو سرها الجميل ، فرغم سلاسة السرد، إلا أنك تلهث وراء المعنى، وتستنطق كل جملة، هو السهل الممتنع، وهذه ربما شيفرة فواز حداد السحرية، التي يستعملها عادة، يحفز ويستفز ويثير في القاريء كل أقنية التنبه، ليبقى القارىء متيقظا، يلتقط اللمحة الذكية، والسرحة الملغمة، واللحاق بكل النقلات النوعية المتلاحقة، والدلالات والرموز، والتماهي بين الحقيقة والغياب، وتفهم كل انواع الشكوك إزاء كل المسلمات المعتادة كل ذلك والسيناريو الملغز يدور، يبحث عن خاتمة، ليضع النهاية، النهاية التي قد تجيب على الكثير من أسئلة الرواية، هو من يحمي احداث الرواية، ومن يحمل ثقلها، ويربط بين زمنيها المتوهم والحقيقي، قد يدركه التعب أحيانا ،وقد يدخل منعطفات ذلقة قد تشعر بصعوبة العودة، إلا أنه سرعان ما يسترد عنفوانه، وبحرفية تامة يعود بالرواية الى مربع الأحداث، والخروج الى نهاية مرضية، من المؤكد أنها ليست بالرواية التي تقرأها للاسترخاء قبل أن تنام. الأجمل في هذه الرواية هي الشخصيات، وهي تقع في صميم العمل الروائي تقود الحدث، وتتفاعل معه ه فواز حداد يقدم لنا الشخصيات كما هي في الحياة/ بعجرها وبجرها/ دون أن يتدخل، بعريها ونفاقها وشرها وضعفها وشهواتها، وجمالها وطيبتها وهشاشتها، يطلقها الى الحياة ويقف معنا يتفرج متلنا، متل كل إنسان خليط من المتناقضات، من الخير والشر يكسر قاعدة الابيض والاسود، شخصية أم كلثوم، فرغم أنها استخدمت غرام احمد رامي والقصبجي بها، الا ان ذلك كان من أجل غرام آخر كبير، غرام الفن ،/ لطيفة/ اللطيفة التي تبيع جسدها، إلا أنها هي الفقيرة المقهورة، الضحية التي تلاعب بمصيرها الجميع رشوم رغم كل تلاعبه، الا ان له وجها آخر، هو عاشق مطرود من جنة الحب، وحتى م.ع، الذي بدا كرئيس لعصابة مافيا، وعضو أساسي في حلقة الفساد، التي هشمت المجتمع السوري، كان بريئا يوما، حين كان شابا يافعا فقيرا أتى من القرية، ووقع في مطب الماركسية الخيالية، إلا أن قريبه ل. ع، الممعن في الفساد، انتشله ووضعه على المسار الذي يجب أن يكون عليه، حسب رؤيته الأعمى، تلك الشخصية المحايدة المخيفة، بقيت عصية عن الفهم والتطويع، هل كانت هي القدر؟ الذي يتلاعب بالبشر يبدأ الكاتب بإغلاق، الخطوط المتشابكة لهذه الرواية الصعبة، خطا وراء خط، من هو الخاسر ومن هو الرابح، ومن هو المنكسر، ماتت أم كلثوم في الرواية وبقي عشاقها مخلصون لفنها وصوتها الخالد رشوم المثقل بأعباء حب فاشل، خرج خاسرا من الحب والانتقام والمجد، والسيناريو، أمام الضربة القاصمة التي كالتها له ناريمان الذكية ،فأهدت /مرسال غرامه/ ساعات من الغرام والوصال لاتوصف، هدية انتقام مجانية لمن اتعبها في الجري وراءها، وفضح اسرارها. الراوي، التي أغوت ناريمان عجزه، فاتقد حرارة، واشتعل رغبة، لكنه كان منكسرا أمام آلام صديقه رشوم، الذي جعله يعيش هذا النوع الغريب من الحياة م ع ول ع، وجوقة المحققين والمفتشين، والمطبلين والمزمرين، ما زالت تصول وتجول وحده الأعمى بقي متفرجا، مفتح العينين، لا يخسر ولا يربح ولا ينكس.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم