تشكّل جائزة البوكر حدثًا ثقافيًا في أرجاء العالم العربي من الصعب تلافيه شئنا أم أبينا. ويكثر الحديث دومًا عن الجائزة وقائمتيها الطويلة والقصيرة ولجنة التحكيم وخياراتها وقراراتها، حتى صار الجمهور يتلهف انطلاق الظاهرة الصحفية وردود المؤلفين والناشرين عليها. يتسع الحدث ليأخذ شكل الطقس الوثني في ترديد النواح والعويل كل عام، فترى أهل المغرب يشتكون من «مشرقية» مزاج اللجنة، وأهل المشرق يلومونها على عدم «إنصافها» في توزيع المنافسة على كل بلد عربيّ بالتساوي وكأننا في اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية. ناهيك عن «الأحقية» التي تشغل بال الجميع ويظلّ مصيرها معلّقا بالذوق العام والخاص. ورغم غزارة هذه التفاصيل فإنها لا تجيبنا عن تساؤل بسيط: «لماذا تلقى هذه الجائزة اهتمامًا أكثر من غيرها؟» فالعالم العربي يشهد في الآونة الأخيرة إقبالًا ملحوظا على الرواية، سواء من جهة القارئ أو الكاتب أو الثالث بينهما: الناشر. ويرافقه اندفاع متهور في توزيع الجوائز يمنة وشمالًا ضمن احتفاليات تنافس بأبّهتها الجوائز الأدبية العريقة في العالم. لكنّ جائزة البوكر تبقى معبودة الجماهير وغاية بعض المؤلفين ومسعىً لأكثر الناشرين. لعلّ الإجابة تكمن في التساؤل نفسه. فالاسم الرسمي «الجائزة العالمية للرواية العربية» يفتح لنا نافذة للولوج في النفسية العربية ودوافعها للكتابة والقراءة على حدّ سواء. أليس في اسمها ما يجعلنا نتخيّل أن العالم قد أعجب بإحدى الروايات العربية فمنحها جائزة؟ أليس في هذا سببٌ يعيدنا إلى التمعّن في نظرتنا إلى الآخر ورأينا في رأي الآخرين فينا؟ أليس للرواية الفائزة حظٌّ أوفر في أن تُترجم إلى اللغات الأخرى وتحصل على جمهور أعرض؟ لابدّ أن نعود إلى أصل الحكاية. قبل عدة أعوام، قام الناقد الكبير عبد الفتاح كيليطو بتلخيص دراساته المفصّلة عن الرواية العربية ونشرها في «موسوعة الرواية» العالمية تحت إشراف الناقد الإيطالي الشهير فرانكو موريتّي. تفيد صفوة أبحاثه بأنّ الرواية فنّ دخيلٌ على العرب ظهر في فترة الانتداب الأوروبي للضفة الأخرى من البحر المتوسط. وإن كانت السينما من الفنون الدخيلة أيضا، فإنها لم تشكل أزمة وجودية عميقة كما فعلت الرواية. فالعرب يعرفون السرد وأبدعوا فيه على مرّ القرون، لكنهم عبّروا عنه مرارا بوساطة الشعر أو المقامات (السجع). أما في الرواية فقد تغيّر الشكل فتغيّر المضمون، تغيّر الظرف فتغيّرت الرسالة، وتشكلت جذور الرواية العربية على علاقتنا بالغرب لتصف انفتاحنا على ثقافته ودخولنا عصر الحداثة الآتية برمّتها من الغرب بما أدى إلى تبّدلٍ جذريّ في حياتنا اليومية. ويذكر كيليطو أعمالا أدبية لاحقة ظلّت تستخدم الرواية على هذا الأساس: فمن «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، مرورا بـ«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح فـ«الحيّ اللاتيني» لسهيل إدريس. هكذا ندرك أنّ الرواية العربية اليوم، بعد أن تجاوزت محنة المخاض، راحت تشقّ دروبا أخرى تحتّم عليها العودة دوما إلى نقطة البدء لتفحص جودة التجربة بجائزة عالمية. ويتضح أن الروائي العربي، في لاوعيه العميق، يهتمّ بتقييم «الآخر» لإبداعه ومدى استحسانه لأسلوبه ومستوى فهمه لقواعد اللعبة السردية ومواكبته لتحولاتها. ومن جهة أخرى، يتلمّس القارئ العربي آفاق التصوّر الغربيّ للحياة العربية، ليس في أدائه للقيم الغربية فحسب إنما في كيفية تناول القضايا الاجتماعية التي يعيشها ومعالجته للانكسارات التي يخوضها حاليا. وبالمقابل نفهم احتفاءنا بالروايات المترجمة عن الآداب الأوروبية على وجه الخصوص، واستخفافنا بآداب القارات الأخرى. وقد نحلّ “عقدة نوبل” وتكهناتنا بصاحب «الفيتو» الذي يتآمر على العرب للحيلولة بينهم وبين دخول المجد من أوسع أبوابه التحاقا ببيرانديللو وكامو وكانيتي وماركيز. وإن كانت هنالك أكثر من نسخة لجائزة البوكر، فهذا لا يمنعنا من تصوّر الرواية العربية الرابحة على أنها امتحان في هضم تقنيات السرد الحديث التي وصلت إليه المدرسة الغربية. ولعلنا نعتبرها رواية منتقاة من بين الآلاف تهاجر عائدة إلى موطنها الأصلي، محمّلة بـ«سحر الشرق»، بعد أن لاقت تقدير النخبة الناقدة ووصلت إلى أكبر عدد من القرّاء العرب. بل بوسعنا اللجوء إلى استعارة لاعب كرة القدم العربي الموهوب، في ملاعب محلية متفاوتة الجودة، يحلم بالاحتراف في الملاعب الأوروبية حيث تُصقل موهبته ويحظى على جمهور أكثر عددًا وعراقة. نذكر من بين روايات البوكر، رواية «عزازيل» ليوسف زيدان التي وصفها النقّاد بأنها روعة في التلغيز والتحليل التاريخيين، وبالغ بعضهم بوصف زيدان بأمبرتو إيكو العرب. ورواية «ساق البامبو» لسعود السنعوسي التي استخدمت تقنيات سردية موزونة في تعدد صوت الراوي والتطرق إلى موضوع اجتماعي متأزّم لا نجده إلا في بلادنا ولا يحسدنا أحد عليه في العالم كلّه. في النهاية، يبقى حديثنا مجرّد رأي في خلفية الاهتمام الواسع بجائزة البوكر قد لا يقدّم ولا يؤخّر فيها أو في مثيلاتها. إنما نأمل أن يؤثر في إيجاد أرضية متينة لما قد يرسّخ مفهوم «الثقافة الأدبية العربية» في تقليصٍ للفوضى لصالح فلسفة الهوية والتجربة المفتوحة كما حدث في أوروبا. فلتكنِ الرواية رأس الحربة في هذا المشروع، لمَ لا؟ المصدر: راديو الوان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم