الكتابةُ فنٌ، ولكنَّها حِرْفَةٌ وصَنْعَةٌ أيضاً! وغالباً ما يركِّز الكتاب، ولا سيما بعض الناشئين الذين لم يكتبوا أو ينشروا كتاباً بعد، على الفَنِّ كفكرةٍ أو مبدأ أو مجال إبداعيٍّ ونشاطٍ إنسانيٍّ، ويتجاهلون الحِرْفَةَ، أو ينكرونها تماماً، فلا يُحقِّقُون الفنَّ ولا يبلغونه لإنكارهم نصفَ حقيقيته الجَوهريةجرَّاء عزوفهم عن متابعة الوُرُودِ على منابعِ تجَلِّيه التي تُزوِّدهم بماء الحِرْفَة ومهاراتها التي تُمكِّنهم من بلوغه!

إنَّ فنَّ الكتابة، أو العملية الإبداعية التي تحملنا إلى عالم الرُّؤى والصُّور، وتتيح لنا أنْ نبتكرَ حبكاتٍ قصصيَّةٍ، وأنْ نخلق شخصيات، وأنْ نتخيَّل أحداثاً تجري ومحاورات تدور، هو الأساس الذي يرفعُ الكُتَّابُ المبدعونَ أَبنيتهم الأدبية عليه فيرفعون شأنَهُ بقدرِ إيغالهم في اكتساب المهارات التي تُمكِّنُهُم من بُلُوغه والتَّجوُّل الحيويِّ في رحابه الإبداعية الواسعة. إنَّه جوهر النَّشاط الإبداعي اللُّغويِّ وأُسُّه وأَصْلُة، وهو عِمَادُ تمييز الكتابة الإبداعية عن غيرها من الكتابات، وملاحظة التَّمايزِ الفارق، والحاسم، بين الكتاب المبدعين وغيرهم من الكتبة والمستكتبين، وبين حرفة الكتابة الإبداعية وغيرها من الحِرَفِ التي تُجافي الإبداع !

وفنُّ الكتابة حرفةٌ تتأصَّلُ بالفنِّ، وفنٌ تُرسِّخه الحرِّفة وتُجلِّيه. وعلى غرار كلِّ الحرفِ الإبداعية، لهذه الحرفة “صندوقُ عِدِّة” يحتوى الأدوات والمواد الأساسية اللَّازمة لإتقان الحرفة، ففيه أداةٌ اسمُهَا الْكَلِمُ (أي الكلمات من أسماء وأفعال وحُروف)، وفيه أداة اسمها النَّحو والصَّرف، وأدوات أخرى هي علوم البلاغة والبيان؛ وعلم الأسلوب، ونظرياتُ علمِ الجمالِ والأدب والنَّقد، وذلك إضافةً إلى أدوات أخرى مُسَاعِدةٍ نعثر عليها في ذلك النِّطاق الواسع من العُلوم الإنسانية.

وليس لكاتبٍ مُبْدعٍ أنْ يُتْقِنَ حرفته إنْ هو لم يُتْقِنَ استعمال أدواتها وموادها الخام. وليس لإتقان الحرفة إلا أنْ يتكفَّل بنقل تصوراتنا الإبداعية من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل؛ أي من مجال الإمكانية المجردة إلى مجال الإمكانية الفعلية المتحقِّقة، أو من مجال التجريد إلى مجال التجسيد، أو من الرؤيا الإلهامية التَّخيليَّة إلى الرؤية البصرية والعقلية المُتبصِّرة ؛ حيث تصير رؤانا مرئيةً للنَّاس؛ وحيث تَحْمِلُ حرفَتُنَا إبداعنا إلى العالم فترسِّخ حُضُورَه فيه، وتبثُّ، عبرهُ، رَسَائلنا المتنوِّعة في فضاءات الوجود!

إنَّ إتْقَانَ الحرفةِ هو طريقُ عالم الفنِّ. ولا يتبدَّى إتْقَانُ الحِرْفة إلا بإخفائها! أي بممارستها بعفوية وتلقائية تنمُّانِ عن إتقانها تماماً؛ فكُلَّما عَلَتْ درجةُ إخفاءِ الحِرْفة، أو الصَّنعةِ، عَلَتْ درجة الإتقان؛ فالصَّنعةُ، في جوهرها العميق، إخفاءٌ للصَّنعة!

إنَّ حرفةَ الكتابة، التي هي الأداةُ أو الوسيلةُ التي تُمَكِّنُنَا من إحالة ذواتنا إحالةً موضوعيةً في العالم كبشرٍ مُبْدِعِين، تستحقُّ أنْ نوليها جُلَّ عنايتنا، وأنْ نمنحها ما يكفيها من الوقت والجهد اللذين يمكنانها من فضِّ إسرارها، وتسليمنا مفاتيح إتْقَانِهَا. ولأنَّ هذه الحِرْفةِ، في خاتمة المطاف، مُتْعةٌ فريدةٌ تنطوي على إنجازٍ مُميَّزٍ ينتظرهُ النَّاس؛ فإنَّهُ لمنَ المُتوجَّبِ علينا أنْ نُعيدَ إنعاشَ ذاكرتنا بقواعد اللُّغة، لنعرف كيفَ نُحْسِنُ اختيارَ الكلمات، وكيفَ نَصُوغُ الجُمَلَ ونبني الفقرات لنُشَكِّل النُّصوصَ. كما يتوجَّبُ علينا أنْ ننعشَ ذاكرتنا بقواعد البلاغة والبيان كي نُحْسِنَ ابتكار صيغ تعبيرية عالية الكثافة وذات طاقة تصويرية تُمَكِّنُنَا من رؤية الأشياء عوضاً عن الاكتفاء بأخذ العلم بوجودها، وأنْ نتوافرَ على درايةٍ عميقةٍ ببلاغةِ القصِّ وقوانينه وتقنياته الفنِّية والأُسلوبية المُتنوِّعةِ لنعرف كيف نخلق الشَّخصيات، وكيفَ نبني الأحداث، وكيفَ نُحْكِمُ بناء الحبكات، وصَوغ المحاورات المحكمة، وابتكار الصِّيغ السَّردية المتميزة. كلُّ ذلك ضروريٌ لمن يرغب في إتقان حرفته كي يُعْلي من شأن إبداعه الفنِّي. غير أنَّ هذا كلَّه ليس كافياً بمفرده، لأنَّ الأصلَ كامنٌ هناك؛ في تلك الموهبة الخلاَّقة، في ذلك الشَّوق اللاهب إلى الإبداع الذي يفتح أفقاً جديداً في عالم الفَنِّ يُوسِّعُ رحابه ويُثريه!

شاعر من فلسطين مقيم في سلوفاكيا

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم